فصل: تفسير الآيات رقم (24- 44)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 44‏]‏

‏{‏وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ‏(‏24‏)‏ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ ‏(‏25‏)‏ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ‏(‏26‏)‏ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏27‏)‏ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ‏(‏28‏)‏ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏29‏)‏ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ ‏(‏30‏)‏ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ ‏(‏31‏)‏ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ‏(‏32‏)‏ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ‏(‏33‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ‏(‏34‏)‏ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏35‏)‏ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ‏(‏36‏)‏ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏37‏)‏ إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ ‏(‏38‏)‏ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏39‏)‏ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏40‏)‏ أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ‏(‏41‏)‏ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ‏(‏42‏)‏ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏43‏)‏ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏وَقِفُوهُمْ‏}‏ احبسوهم في الموقف‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ‏}‏ عن عقائدهم وأعمالهم والواو لا توجب الترتيب مع جواز أن يكون موقفهم متعدداً‏.‏

‏{‏مَا لَكُمْ لاَ تناصرون‏}‏ لا ينصر بعضكم بعضاً بالتخليص، وهو توبيخ وتقريع‏.‏

‏{‏بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ‏}‏ منقادون لعجزهم وانسداد الحيل عليهم، وأصل الاستسلام طلب السلامة أو متسالمون كأنه يسلم بعضهم بعضاً ويخذله‏.‏

‏{‏وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ‏}‏ يعني الرؤوساء والأتباع أو الكفرة والقرناء‏.‏ ‏{‏يَتَسَاءلُونَ‏}‏ يسأل بعضهم بعضاً للتوبيخ ولذلك فسر ب ‏{‏يتخاصمون‏}‏‏.‏

‏{‏قَالُواْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين‏}‏ عن أقوى الوجوه وأيمنها، أو عن الدين أو عن الخير كأنكم تنفعوننا نفع السانح فتبعناكم وهلكنا، مستعار من يمين الإِنسان الذي هو أقوى الجانبين وأشرفهما وأنفعهما ولذلك سمي يميناً وتيمن بالسانح، أو عن القوة والقهر فتقسروننا على الضلال، أو على الحلف فإنهم كانوا يحلفون لهم إنهم على الحق‏.‏

‏{‏قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مّن سلطان بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طاغين‏}‏ أجابهم الرؤساء أولاً بمنع إضلالهم بأنهم كانوا ضالين في أنفسهم، وثانياً بأنهم ما أجبروهم على الكفر إذ لم يكن لهم عليهم تسلط وإنما جنحوا إليه لأنهم كانوا قوماً مختارين الطغيان‏.‏

‏{‏فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏فأغويناكم إِنَّا كُنَّا غاوين‏}‏ ثم بينوا أن ضلال الفريقين ووقوعهم في العذاب كان أمراً مقضياً لا محيص لهم عنه، وإن غاية ما فعلوا بهم أنهم دعوهم إلى الغي لأنهم كانوا على الغي فأحبوا أن يكونوا مثلهم، وفيه إيماء بأن غوايتهم في الحقيقة ليست من قبلهم إذ لو كان كل غواية لإِغواء غاو فمن أغواهم‏.‏

‏{‏فَإِنَّهُمْ‏}‏ فإن الأتباع والمتبوعين‏.‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ فِى العذاب مُشْتَرِكُونَ‏}‏ كما كانوا مشتركين في الغواية‏.‏

‏{‏إِنَّا كَذَلِكَ‏}‏ مثل ذلك الفعل‏.‏ ‏{‏نَفْعَلُ بالمجرمين‏}‏ بالمشركين لقوله تعالى‏:‏

‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ أي عن كلمة التوحيد، أو على من يدعوهم إليه‏.‏

‏{‏وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ‏}‏ يعنون محمداً عليه الصلاة والسلام‏.‏

‏{‏بَلْ جَاءَ بالحق وَصَدَّقَ المرسلين‏}‏ رد عليهم بأن ما جاء به من التوحيد حق قام به البرهان وتطابق عليه المرسلون‏.‏

‏{‏إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا العذاب الأليم‏}‏ بالإِشراك وتكذيب الرسل، وقرئ بنصب «العذاب»، على تقرير النون كقوله‏:‏

وَلاَ ذَاكِرُ الله إِلاَّ قَلِيلاً ***

وهو ضعيف في غير المحلى باللام وعلى الأصل‏.‏

‏{‏وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ إلا مثل ما عملتم‏.‏

‏{‏إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين‏}‏ استثناء منقطع إلا أن يكون الضمير في ‏{‏تُجْزَوْنَ‏}‏ لجميع المكلفين فيكون استثناؤهم عنه باعتبار المماثلة، فإن ثوابهم مضاعف والمنقطع أيضاً بهذا الاعتبار‏.‏

‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ‏}‏ خصائصه من الدوام، أو تمحض اللذة ولذلك فسره بقوله‏:‏

‏{‏فواكه‏}‏ فإن الفاكهة ما يقصد للتلذذ دون التغذي والقوت بالعكس، وأهل الجنة لما أعيدوا على خلقة محكمة محفوظة عن التحلل كانت أرزاقهم فواكه خالصة‏.‏ ‏{‏وَهُم مُّكْرَمُونَ‏}‏ في نيله يصل إليهم من غير تعب وسؤال كما عليه رزق الدنيا‏.‏

‏{‏فِي جنات النعيم‏}‏ في جنات ليس فيها إلا النعيم، وهو ظرف أو حال من المستكن في ‏{‏مُّكْرَمُونَ‏}‏، أو خبر ثان ‏{‏لأولئك‏}‏ وكذلك‏:‏

‏{‏على سُرُرٍ‏}‏ يحتمل الحال أو الخبر فيكون‏:‏ ‏{‏متقابلين‏}‏ حالاً من المستكن فيه أو في ‏{‏مُّكْرَمُونَ‏}‏، وأن يتعلق ب ‏{‏متقابلين‏}‏ فيكون حالاً من ضمير ‏{‏مُّكْرَمُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 54‏]‏

‏{‏يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ‏(‏45‏)‏ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ‏(‏46‏)‏ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ ‏(‏47‏)‏ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ‏(‏48‏)‏ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ‏(‏49‏)‏ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏50‏)‏ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ‏(‏51‏)‏ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ‏(‏52‏)‏ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ‏(‏53‏)‏ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ‏}‏ بإناء فيه خمر أو خمر كقوله‏:‏

وَكَأْسٌ شُرِبَتْ عَلَى لَذَّةٍ *** ‏{‏مّن مَّعِينٍ‏}‏ من شراب معين أو نهر معين أي ظاهر للعيون، أو خارج من العيون وهو صفة للماء من عان الماء إذا نبع‏.‏ وصف به خمر الجنة لأنها تجري كالماء، أو للإِشعار بأن ما يكون لهم بمنزلة الشراب جامع لما يطلب من أنواع الأشربة لكمال اللذة، وكذلك قوله‏:‏

‏{‏بَيْضَاءَ لَذَّةٍ للشاربين‏}‏ وهما أيضاً صفتان لكأس، ووصفها ب ‏{‏لَذَّةٍ‏}‏ إما للمبالغة أو لأنها تأنيث لذ بمعنى لذيذ كطب ووزنه فعل قال‏:‏

وَلَذّ كَطَعْم الصَرخديّ تَرَكْتُه *** بِأَرْضِ العِدَا مِنْ خَشْيَةِ الحَدَثَانِ

‏{‏لاَ فِيهَا غَوْلٌ‏}‏ غائلة كما في خمر الدنيا كالخمار من غاله يغوله إذا أفسده ومنه الغول‏.‏ ‏{‏وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ‏}‏ يسكرون من نزف الشارب فهو نزيف ومنزوف إذا ذهب عقله، أفرده بالنفي وعطفه على ما يعمه لأنه من عظم فساده كأنه جنس برأسه، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الزاي وتابعهما عاصم في «الواقعة» من أنزف الشارب إذا نفد عقله أو شرابه، وأصله للنفاد يقال نزف المطعون إذا خرج دمه كله ونزحت الركية حتى نزفتها‏.‏

‏{‏وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف‏}‏ قصرن أبصارهن على أزواجهن‏.‏ ‏{‏عِينٌ‏}‏ نجل العيون جمع عيناء‏.‏

‏{‏كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ‏}‏ شبههن ببيض النعام المصون عن الغبار ونحوه في الصفاء والبياض المخلوط بأدنى صفرة فإنه أحسن ألوان الأبدان‏.‏

‏{‏فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُوَنَ‏}‏ معطوف على ‏{‏يُطَافُ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي يشربون فيتحادثون على الشراب قال‏:‏

وَمَا بَقِيَتْ مِنَ اللَّذَّاتِ إِلا *** أَحَادِيثُ الكِرَامِ عَلَى المُدَامِ

والتعبير عنه بالماضي للتأكيد فيه فإنه ألذ تلك اللذات إلى العقل، وتساؤلهم عن المعارف والفضائل وما جرى لهم وعليهم في الدنيا‏.‏

‏{‏قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ‏}‏ في مكالمتهم‏.‏ ‏{‏إِنّي كَانَ لِي قَرِينٌ‏}‏ جليس في الدنيا‏.‏‏.‏‏.‏

‏{‏يِقُولُ أَءنَّكَ لَمِنَ المصدقين‏}‏ يوبخني على التصديق بالبعث، وقرئ بتشديد الصاد من التصدق‏.‏

‏{‏أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءِنَّا لَمَدِينُونَ‏}‏ لمجزيون من الدين بمعنى الجزاء‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ أي ذلك القائل‏.‏ ‏{‏هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ‏}‏ إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين، وقيل القائل هو الله سبحانه وتعالى أو بعض الملائكة يقول لهم‏:‏ هل تحبون أن تطلعوا على أهل النار لأريكم ذلك القرين فتعلموا أين منزلتكم من منزلتهم‏؟‏ وعن أبي عمرو «مُّطَّلِعُونَ فَأَطَّلِعَ» بالتخفيف وكسر النون وضم الألف على أنه جعل اطلاعهم سبب اطلاعه من حيث أن أدب المجالسة يمنع الاستبداد به، أو خاطب الملائكة على وضع المتصل موضع المنفصل كقوله‏:‏

هُم الآمِرُونَ الخَيْرَ وَالفَاعِلُونَهُ *** أو شبه اسم الفاعل بالمضارع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 79‏]‏

‏{‏فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ‏(‏55‏)‏ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ‏(‏56‏)‏ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ‏(‏57‏)‏ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ‏(‏58‏)‏ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ‏(‏59‏)‏ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏60‏)‏ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ‏(‏61‏)‏ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ‏(‏62‏)‏ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ‏(‏63‏)‏ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ‏(‏64‏)‏ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ‏(‏65‏)‏ فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ‏(‏66‏)‏ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ‏(‏67‏)‏ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ ‏(‏68‏)‏ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ‏(‏69‏)‏ فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ‏(‏70‏)‏ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏71‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ ‏(‏72‏)‏ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏73‏)‏ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏74‏)‏ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ‏(‏75‏)‏ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ‏(‏76‏)‏ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ‏(‏77‏)‏ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏78‏)‏ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَطَّلِعَ‏}‏ عليهم‏.‏ ‏{‏فَرَءاهُ‏}‏ أي قرينه‏.‏ ‏{‏فِى سَوَاء الجحيم‏}‏ وسطه‏.‏

‏{‏قَالَ تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ‏}‏ لتهلكني بالإِغواء، وقرئ «لتغوين» و‏{‏إِن‏}‏ هي المخففة واللام هي الفارقة‏.‏

‏{‏وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّي‏}‏ بالهداية والعصمة‏.‏ ‏{‏لَكُنتُ مِنَ المحضرين‏}‏ معك فيها‏.‏

‏{‏أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ‏}‏ عطف على محذوف أي أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين، أي بمن شأنه الموت وقرئ «بمائتين»‏.‏

‏{‏إِلأ مَوْتَتَنَا الأولى‏}‏ التي كانت في الدنيا وهي متناولة لما في القبر بعد الإِحياء للسؤال، ونصبها على المصدر من اسم الفاعل‏.‏ وقيل على الاستثناء المنقطع‏.‏ ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏}‏ كالكفار، وذلك تمام كلامه لقرينه تقريعاً له أو معاودة إلى مكالمة جلسائه تحدثاً بنعمة الله، أو تبجحاً بها وتعجباً منها وتعريضاً للقرين بالتوبيخ‏.‏

‏{‏إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم‏}‏ يحتمل أن يكون من كلامهم وأن يكون كلام الله سبحانه وتعالى لتقرير قوله والإِشارة إلى ما هم عليه من النعمة والخلود والأمن من العذاب‏.‏

‏{‏لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون‏}‏ أي لنيل مثل هذا يجب أن يعمل العاملون لا للحظوظ الدنيوية المشوبة بالآلام السريعة الانصرام، وهو أيضاً يحتمل الأمرين‏.‏

‏{‏أذلك خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم‏}‏ شجرة ثمرها نزل أهل النار، وانتصاب ‏{‏نُزُلاً‏}‏ على التمييز أو الحال وفي ذكره دلالة على أن ما ذكر من النعيم لأهل الجنة بمنزلة ما يقال للنازل ولهم وراء ذلك ما تقصر عنه الأفهام، وكذلك الزقوم لأهل النار، وهو‏:‏ اسم شجرة صغيرة الورق ذفر مرة تكون بتهامة سميت به الشجرة الموصوفة‏.‏

‏{‏إِنَّا جعلناها فِتْنَةً للظالمين‏}‏ محنة وعذاباً لهم في الآخرة، أو ابتلاء في الدنيا فإنهم لما سمعوا أنها في النار قالوا كيف ذلك والنار تحرق الشجر، ولم يعلموا أن من قدر على خلق حيوان يعيش في النار ويلتذ بها فهو أقدر على خلق الشجرة في النار وحفظه من الإِحراق‏.‏

‏{‏إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الجحيم‏}‏ منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها‏.‏

‏{‏طَلْعِهَا‏}‏ حملها مستعار من طلع التمر لمشاركته إياه في الشكل، أو الطلوع من الشجر‏.‏ ‏{‏كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين‏}‏ في تناهي القبح والهول، وهو تشبيه بالمتخيل كتشبيه الفائق الحسن بالملك‏.‏ وقيل ‏{‏الشياطين‏}‏ حيات هائلة قبيحة المنظر لها أعراف، ولعلها سميت بها لذلك‏.‏

‏{‏فَإِنَّهُمْ لأكِلُونَ مِنْهَا‏}‏ من الشجرة أو من طلعها‏.‏ ‏{‏فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون‏}‏ لغلبة الجوع أو الجبر على أكلها‏.‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا‏}‏ أي بعد ما شبعوا منها وغلبهم العطش وطال استسقاؤهم، ويجوز أن يكون ثم لما في شرابهم من مزيد الكراهة والبشاعة‏.‏ ‏{‏لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ‏}‏ لشراباً من غساق، أو صديد مشوباً بماء حميم يقطع أمعاءهم، وقرئ بالضم وهو اسم ما يشاب به والأول مصدر سمي به‏.‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ‏}‏ مصيرهم‏.‏ ‏{‏لإِلَى الجحيم‏}‏ إلى دركاتها أو إلى نفسها، فإن الزقوم والحميم نزل يقدم إليهم قبل دخولهم، وقيل الحميم خارج عنها لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذه جَهَنَّمُ التى يُكَذّبُ بِهَا المجرمون يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آن‏}‏ يوردون إليه كما تورد الإِبل إلى الماء ثم يردون إلى الجحيم، ويؤيده أنه قرئ «ثم إن منقلبهم»‏.‏

‏{‏إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءَابَاءهُمْ ضَالّينَ فَهُمْ على ءَاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ‏}‏ تعليل لاستحقاقهم تلك الشدائد بتقليد الآباء في الضلال، والإِهراع‏:‏ الإِسراع الشديد كأنهم يزعجون على الإِسراع على ‏{‏آثارهم‏}‏، وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى ذلك من غير توقف على نظر وبحث‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ‏}‏ قبل قومك‏.‏ ‏{‏أَكْثَرُ الأولين‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ‏}‏ أنبياء أنذروهم من العواقب‏.‏

‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين‏}‏ من الشدة والفظاعة‏.‏

‏{‏إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين‏}‏ إلا الذين تنبهوا بإنذارهم فأخلصوا دينهم لله، وقرئ بالفتح أي الذين أخلصهم الله لدينه والخطاب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، والمقصود خطاب قومه فإنهم أيضاً سمعوا أخبارهم ورأوا آثارهم‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ‏}‏ شروع في تفصيل القصص بعد إجمالها، أي ولقد دعانا حين أيس من قومه‏.‏ ‏{‏فَلَنِعْمَ المجيبون‏}‏ أي فأجبناه أحسن الإِجابة فوالله لنعم المجيبون نحن، فحذف منها ما حذف لقيام ما يدل عليه‏.‏

‏{‏ونجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم‏}‏ من الغرق أو أذى قومه‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين‏}‏ إذ هلك من عداهم وبقوا متناسلين إلى يوم القيامة، إذ روي أنه مات كل من كان معه في السفينة غير بنيه وأزواجهم‏.‏

‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الأخرين‏}‏ من الأمم‏.‏

‏{‏سلام على نُوحٍ‏}‏ هذا الكلام جيء به على الحكاية والمعنى يسلمون عليه تسليماً‏.‏ وقيل هو سلام من الله عليه ومفعول ‏{‏تَّرَكْنَا‏}‏ محذوف مثل الثناء‏.‏ ‏{‏فِى العالمين‏}‏ متعلق بالجار والمجرور ومعناه الدعاء بثبوت هذه التحية في الملائكة والثقلين جميعاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 95‏]‏

‏{‏إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏80‏)‏ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏81‏)‏ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏82‏)‏ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ‏(‏83‏)‏ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ‏(‏84‏)‏ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ‏(‏85‏)‏ أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ‏(‏86‏)‏ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏87‏)‏ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ‏(‏88‏)‏ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ‏(‏89‏)‏ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ‏(‏90‏)‏ فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ‏(‏91‏)‏ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ ‏(‏92‏)‏ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ‏(‏93‏)‏ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ‏(‏94‏)‏ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين‏}‏ تعليل لما فعل بنوح من التكرمة بأنه مجازاة له على إحسانه‏.‏

‏{‏إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين‏}‏ تعليل لإِحسانه بالإِيمان إظهاراً لجلالة قدره وأصالة أمره‏.‏

‏{‏ثُمَّ أَغْرَقْنَا الأخرين‏}‏ يعني كفار قومه‏.‏

‏{‏وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ‏}‏ ممن شايعه في الإِيمان وأصول الشريعة‏.‏ ‏{‏لإبراهيم‏}‏ ولا يبعد اتفاق شرعهما في الفروع أو غالباً، وكان بينهما ألفان وستمائة وأربعون سنة، وكان بينهما نبيان هود وصالح عليهما الصلاة والسلام‏.‏

‏{‏إِذْ جَاءَ رَبَّهُ‏}‏ متعلق بما في الشيعة من معنى المشايعة أو بمحذوف هو اذكر‏.‏ ‏{‏بِقَلْبٍ سَلِيمٍ‏}‏ من آفات القلوب أو من العلائق خالص لله أو مخلص له، وقيل حزين من السليم بمعنى اللديغ‏.‏ ومعنى المجيء به ربه‏:‏ إخلاصه له كأنه جاء به متحفاً إياه‏.‏

‏{‏إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ‏}‏ بدل من الأولى أو ظرف ل ‏{‏جَاء‏}‏ أو ‏{‏سَلِيمٍ‏}‏‏.‏

‏{‏أَئِفْكاً ءَالِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ‏}‏ أي تريدون آلهة دون الله إفكاً مقدم المفعول للعناية ثم المفعول له لأن الأهم أن يقرر أنهم على الباطل ومبنى أمرهم على الافك، ويجوز أن يكون ‏{‏إِفْكاً‏}‏ مفعولاً به و‏{‏ءَالِهَةً‏}‏ بدل منه على أنها إفك في نفسها للمبالغة، أو المراد بها عبادتها بحذف المضاف أو حالاً بمعنى إفكين‏.‏

‏{‏فَمَا ظَنُّكُم بِرَبّ العالمين‏}‏ بمن هو حقيق بالعبادة لكونه ربا للعالمين حتى تركتم عبادته، أو أشركتم به غيره أو أمنتم من عذابه، والمعنى إنكار ما يوجب ظناً فضلاً عن قطع يصد عن عبادته، أو يجوز الإِشراك به أو يقتضي الأمن من عقابه على طريقة الإِلزام وهو كالحجة على ما قبله‏.‏

‏{‏فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النجوم‏}‏ فرأى مواقعها واتصالاتها، أو في علمها أو في كتابها، ولا منع منه مع أن قصده إيهامهم وذلك حين سألوه أن يعبد معهم‏.‏

‏{‏فَقَالَ إِنّي سَقِيمٌ‏}‏ أراهم أنه استدل بها لأنهم كانوا منجمين على أنه مشارف للسقم لئلا يخرجوه إلى معبدهم، فإنه كان أغلب أسقامهم الطاعون وكانوا يخافون العدوى، أو أراد إني سقيم القلب لكفركم، أو خارج المزاج عن الاعتدال خروجاً قل من يخلو منه أو بصدد الموت ومنه المثل‏:‏ كفى بالسلامة داء، وقول لبيد

‏:‏

فَدَعَوْتُ رَبِّي بِالسَّلاَمَةِ جَاهِدا *** لِيُصحّنِي فَإِذَا السَّلاَمَةُ دَاءُ

‏{‏فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ‏}‏ هاربين مخافة العدوى‏.‏

‏{‏فَرَاغَ إلى ءالِهَتِهِمْ‏}‏ فذهب إليها في خفية من روغة الثعلب وأصله الميل بحيلة‏.‏ ‏{‏فَقَالَ‏}‏ أي للأصنام استهزاء‏.‏ ‏{‏أَلا تَأْكُلُونَ‏}‏ يعني الطعام الذي كان عندهم‏.‏

‏{‏مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ‏}‏ بجوابي‏.‏

‏{‏فَرَاغَ عَلَيْهِمْ‏}‏ فمال عليهم مستخفياً، والتعدية بعلى للاستعلاء وإن الميل لمكروه‏.‏ ‏{‏ضَرْباً باليمين‏}‏ مصدر«لراغ عليهم» لأنه في معنى ضربهم، أو لمضمر تقديره فراغ عليهم يضربهم وتقييده باليمين للدلالة على قوته فإن قوة الآلة تستدعي قوة الفعل، وقيل ‏{‏باليمين‏}‏ بسبب الحلف وهو قوله‏:‏

‏{‏تالله لأكِيدَنَّ أصنامكم‏}‏ فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ‏}‏ إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعدما رجعوا فرأوا أصنامهم مكسرة وبحثوا عن كاسرها فظنوا أنه هو كما شرحه في قوله‏:‏ ‏{‏مَن فَعَلَ هذا بِئَالِهَتِنَا‏}‏ الآية‏.‏ ‏{‏يَزِفُّونَ‏}‏ يسرعون من زفيف النعام‏.‏ وقرى حمزة على بناء المفعول من أزفه أي يحملون على الزفيف‏.‏ وقرئ ‏{‏يَزِفُّونَ‏}‏ أي يزف بعضهم بعضاً، و‏{‏يَزِفُّونَ‏}‏ من وزف يزف إذا أسرع و‏{‏يَزِفُّونَ‏}‏ من زفاه إذا حداه كأن بعضهم يزفو بعضاً لتسارعهم إليه ‏{‏قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ‏}‏ ما تنحتونه من الأصنام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 102‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏96‏)‏ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ‏(‏97‏)‏ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ ‏(‏98‏)‏ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ‏(‏99‏)‏ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏100‏)‏ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ‏(‏101‏)‏ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

‏{‏والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ أي وما تعملونه فإن جوهرها بخلقه وشكلها وإن كان بفعلهم، ولذلك جعل من أعمالهم فبإقداره إياهم عليه وخلقه ما يتوقف عليه فعلهم من الدواعي والعدد، أو عملكم بمعنى معمولكم ليطابق ما تنحتون، أو إنه بمعنى الحدث فإن فعلهم إذا كان بخلق الله تعالى فيهم كان مفعولهم المتوقف على فعلهم أولى بذلك، وبهذا المعنى تمسك أصحابنا على خلق الأعمال ولهم أن يرجحوه على الأولين لما فيها من حذف أو مجاز‏.‏

‏{‏قَالُواْ ابنوا لَهُ بنيانا فَأَلْقُوهُ فِى الجحيم‏}‏ في النار الشديدة من الجحمة وهي شدة التأجج، واللام بدل الإِضافة أي جحيم ذلك البنيان‏.‏

‏{‏فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً‏}‏ فإنه لما قهرهم بالحجة قصدوا تعذيبه بذلك لئلا يظهر للعامة عجزهم‏.‏ ‏{‏فجعلناهم الأسفلين‏}‏ الأذلين بإبطال كيدهم وجعله برهاناً نيراً على علو شأنه، حيث جعل النار عليه برداً وسلاماً‏.‏

‏{‏وَقَالَ إِنّي ذَاهِبٌ إلى رَبّي‏}‏ إلى حيث أمرني ربي وهو الشام، أو حيث أتجرد فيه لعبادته‏.‏ ‏{‏سَيَهْدِينِ‏}‏ إلى ما فيه صلاح ديني أو إلى مقصدي، وإنما بت القول لسبق وعده أو لفرط توكله، أو البناء على عادته معه ولم يكن كذلك حال موسى عليه الصلاة والسلام حين ‏{‏قَالَ عسى رَبّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السبيل‏}‏ فلذلك ذكر بصيغة التوقع‏.‏

‏{‏رَبّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين‏}‏ بعض الصالحين يعينني على الدعوة والطاعة ويؤنسني في الغربة، يعني الولد لأن لفظ الهبة غالبة فيه ولقوله‏:‏

‏{‏فبشرناه بغلام حَلِيمٍ‏}‏ بشره بالولد وبأنه ذكر يبلغ أوان الحلم، فإن الصبي لا يوصف بالحلم ويكون حليماً وأي حلم مثل حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح وهو مراهق فقال ‏{‏سَتَجِدُنِي إِن شَاء الله مِنَ الصابرين‏}‏ وقيل ما نعت الله نبياً بالحلم لعزة وجوده غير إبراهيم وابنه عليهما الصلاة والسلام، وحالهما المذكورة بعد تشهد عليه‏.‏

‏{‏فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي‏}‏ أي فلما جَّد وبلغ أن يسعى معه في أعماله، و‏{‏مَعَهُ‏}‏ متعلق بمحذوف دل عليه ‏{‏السعي‏}‏ لا به لأن صلة المصدر لا تتقدمه ولا يبلغ فإن بلوغهما لم يكن معاً كأنه لَمَّا قال‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا بَلَغَ السعي‏}‏ فقيل مع من فقيل ‏{‏مَعَهُ‏}‏، وتخصيصه لأن الأب أكمل في الرفق والاستصلاح له فلا يستسعيه قبل أوانه، أو لأنه استوهبه لذلك وكان له يومئذ ثلاث عشرة سنة‏.‏ ‏{‏قَالَ يَا بَُنَيَّ‏}‏ وقرأ حفص بفتح الياء‏.‏ ‏{‏إِنّى أرى فِى المنام أَنّى أَذْبَحُكَ‏}‏ يحتمل أنه رأى ذلك وأنه رأى ما هو تعبيره، وقيل إنه رأى ليلة التروية أن قائلاً يقول له‏:‏ إن الله يأمرك بذبح ابنك، فلما أصبح روى أنه من الله أو من الشيطان، فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره وقال له ذلك، ولهذا سميت الأيام الثلاثة بالتروية وعرفة والنحر، والأظهر أن المخاطب إسمعيل عليه السلام لأنه الذي وهب له أثره الهجرة ولأن البشارة بإسحاق بعد معطوفة على البشارة بهذا الغلام، ولقوله عليه الصلاة والسلام

‏"‏ أنا ابن الذبيحين ‏"‏ فأحدهما جده إسمعيل والآخر أبوه عبد الله، فإن جده عبد المطلب نذر أن يذبح ولداً إن سهل الله له حفر زمزم أو بلغ بنوه عشرة، فلما سهل أقرع فخرج السهم على عبد الله ففداه بمائة من الإِبل، ولذلك سنت الدية مائة ولأن ذلك كان بمكة وكان قرنا الكبش معلقين بالكعبة حتى احترقا معها في أيام ابن الزبير، ولم يكن إسحاق ثمة ولأن البشارة بإسحاق كانت مقرونة بولادة يعقوب منه فلا يناسبها الأمر بذبحه مراهقاً، وما روي ‏"‏ أنه عليه الصلاة والسلام سئل أي النسب أشرف فقال‏:‏ يوسف صديق الله بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله ‏"‏ فالصحيح أنه قال‏:‏ فقال‏:‏ ‏"‏ يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ‏"‏ والزوائد من الراوي‏.‏ وما روي أن يعقوب كتب إلى يوسف مثل ذلك لم يثبت‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بفتح الياء فيهما‏.‏ ‏{‏فانظر مَاذَا ترى‏}‏ من الرأي، وإنما شاوره فيه وهو حتم ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله فيثبت قدمه إن جزع، ويأمن عليه إن سلم وليوطن نفسه عليه فيهون ويكتسب المثوبة بالانقياد له قبل نزوله، وقرأ حمزة والكسائي «مَاذَا ترى» بضم التاء وكسر الراء خالصة، والباقون بفتحها وأبو عمرو يميل فتحة الراء وورش بين بين والباقون بإخلاص فتحها‏.‏ ‏{‏قَالَ يَا أَبَتِ‏}‏ وقرأ ابن عامر بفتح التاء‏.‏ ‏{‏ا افعل مَا تُؤمَرُ‏}‏ أي ما تؤمر به فحذفا دفعة، أو على الترتيب كما عرفت أو أمرك على إرادة المأمور به والإِضافة إلى المأمور، أو لعله فهم من كلامه أنه رأى أنه يذبحه مأموراً به، أو علم أن رؤيا الأنبياء حق وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر، ولعل الأمر في المنام دون اليقظة لتكون مبادرتهما إلى الامتثال أدل على كمال الانقياد والإخلاص، وإنما ذكر بلفظ المضارع لتكرر الرؤيا‏.‏ ‏{‏سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ الله مِنَ الصابرين‏}‏ على الذبح أو على قضاء الله، وقرأ نافع بفتح الياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 138‏]‏

‏{‏فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ‏(‏103‏)‏ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ‏(‏104‏)‏ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏105‏)‏ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ‏(‏106‏)‏ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ‏(‏107‏)‏ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏108‏)‏ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ‏(‏109‏)‏ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏110‏)‏ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏111‏)‏ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏112‏)‏ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ‏(‏113‏)‏ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏114‏)‏ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ‏(‏115‏)‏ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ‏(‏116‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ‏(‏117‏)‏ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ‏(‏118‏)‏ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏119‏)‏ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏120‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏121‏)‏ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏122‏)‏ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏123‏)‏ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏124‏)‏ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ‏(‏125‏)‏ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏126‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ‏(‏127‏)‏ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏128‏)‏ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏129‏)‏ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ‏(‏130‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏131‏)‏ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏132‏)‏ وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏133‏)‏ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ‏(‏134‏)‏ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ‏(‏135‏)‏ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏136‏)‏ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ‏(‏137‏)‏ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏138‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا أَسْلَمَا‏}‏ استسلما لأمر الله أو سلما الذبيح نفسه وإبراهيم ابنه، وقد قرئ بهما وأصلها سلم هذا لفلان إذا خلص له فإنه سلم من أن ينازع فيه‏.‏ ‏{‏وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ‏}‏ صرعه على شقه فوقع جبينه على الأرض وهو أحد جانبي الجبهة‏.‏ وقيل كبه على وجهه بإشارته لئلا يرى فيه تغيراً يرق له فلا يذبحه، وكان ذلك عند الصخرة بمنى أو في الموضع المشرف على مسجده، أو المنحر الذي ينحر فيه اليوم‏.‏

‏{‏وناديناه أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا‏}‏ بالعزم والإِتيان بالمقدمات‏.‏ وقد روي أنه أمر السكين بقوته على حلقه مراراً فلم تقطع، وجواب «لما» محذوف تقديره كان ما كان مما ينطلق به الحال ولا يحيط به المقال، من استبشارهما وشكرهما لله تعالى على ما أنعم عليهما من دفع البلاء بعد حلوله والتوفيق بما لم يوفق غيرهما لمثله، وإظهار فضلهما به على العالمين مع إحراز الثواب العظيم إلى غير ذلك‏.‏ ‏{‏إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين‏}‏ تعليل لإِفراج تلك الشدة عنهما بإحسانهما، واحتج به من جوز النسخ قبل وقوعه فإنه عليه الصلاة والسلام كان مأموراً بالذبح لقوله ‏{‏ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ‏}‏ ولم يحصل‏.‏

‏{‏إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين‏}‏ الابتلاء البين الذي يتميز فيه المخلص من غيره، أو المحنة البينة الصعوبة فإنه لا أصعب منها‏.‏

‏{‏وفديناه بِذِبْحٍ‏}‏ بما يذبح بدله فيتم به الفعل‏.‏ ‏{‏عظِيمٍ‏}‏ عظيم الجثة سمين، أو عظيم القدر لأنه يفدي به الله نبياً ابن نبي وأي نبي من نسله سيد المرسلين‏.‏ قيل كان كبشاً من الجنة‏.‏ وقيل وعلاً أهبط عليه من ثبير‏.‏ وروي أنه هرب منه عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه فصارت سنة، والفادي على الحقيقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وإنما قال وفديناه لأن الله المعطي له والآمر به على التجوز في الفداء أو الإِسناد، واستدل به الحنفية على أن من نذر ذبح ولده لزمه ذبح شاة وليس فيه ما يدل عليه‏.‏

‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سلام على إبراهيم‏}‏ سبق بيانه في قصة نوح عليه السلام‏.‏ ‏{‏كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين‏}‏ لعله طرح عنه أنا اكتفاء بذكره مرة في هذه القصة‏.‏

‏{‏إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً مّنَ الصالحين‏}‏ مقضياً نبوته مقدراً كونه من الصالحين وبهذا الاعتبار وقعا حالين ولا حاجة إلى وجود المبشر به وقت البشارة، فإن وجود ذي الحال غير شرط بل الشرط مقارنة تعلق الفعل به لاعتبار المعنى بالحال، فلا حاجة إلى تقدير مضاف يجعل عاملاً فيهما مثلاً و‏{‏بشرناه‏}‏ بوجود إسحق أي بأن يوجد إسحق نبياً من الصالحين، ومع ذلك لا يصير نظير قوله‏:‏

‏{‏فادخلوها خالدين‏}‏ فإن الداخلين مقدرون خلودهم وقت الدخول وإسحق لم يكن مقدراً نبوة نفسه وصلاحها حينما يوجد، ومن فسر الذبيح بإسحق جعل المقصود من البشارة نبوته، وفي ذكر الصلاح بعد النبوة تعظيم لشأنه وإيماء بأنه الغاية لها لتضمنها معنى الكمال والتكميل بالفعل على الإِطلاق‏.‏

‏{‏وباركنا عَلَيْهِ‏}‏ على إبراهيم في أولاده‏.‏ ‏{‏وعلى إسحاق‏}‏ بأن أخرجنا من صلبه أنبياء بني إسرائيل وغيرهم كأيوب وشعيب، أو أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا، وقرئ «وبركنا»‏.‏ ‏{‏وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ‏}‏ في عمله أو إلى نفسه بالإِيمان والطاعة‏.‏ ‏{‏وظالم لّنَفْسِهِ‏}‏ بالكفر والمعاصي‏.‏ ‏{‏مُّبِينٌ‏}‏ ظاهر ظلمه، وفي ذلك تنبيه على أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال وأن الظلم في أعقابها لا يعود عليهما بنقيصه وعيب‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ مَنَنَّا على موسى وهارون‏}‏ أنعمنا عليهما بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية‏.‏

‏{‏ونجيناهما وَقَوْمَهُمَا مِنَ الكرب العظيم‏}‏ من تغلب فرعون أو الغرق‏.‏

‏{‏ونصرناهم‏}‏ ثم الضمير لهما مع القوم‏.‏ ‏{‏فَكَانُواْ هُمُ الغالبين‏}‏ على فرعون وقومه‏.‏

‏{‏وءاتيناهما الكتاب المستبين‏}‏ البليغ في بيانه وهو التوراة‏.‏

‏{‏وهديناهما الصراط المستقيم‏}‏ الطريق الموصل إلى الحق والصواب‏.‏

‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الآخرين سلام على موسى وهارون إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين‏}‏ سبق مثل ذلك‏.‏

‏{‏وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المرسلين‏}‏ هو إلياس بن ياسين سبط هرون أخى موسى بعث بعده‏.‏ وقيل إدريس لأنه قرئ إدريس وإدراس مكانه وفي حرف أبي رضي الله عنه‏.‏ وقيل إيليس وقرأ ابن ذكوان مع خلاف عنه بحذف همزة إلياس‏.‏

‏{‏إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ عذاب الله‏.‏

‏{‏أَتَدْعُونَ بَعْلاً‏}‏ أتعبدونه أو أتطلبون الخير منه، وهو اسم صنم كان لأهل بَكَّ من الشام وهو البلد الذي يقال له الآن بعلبك وقيل البعل الرب بلغة اليمن، والمعنى أتدعون بعض البعول‏.‏ ‏{‏وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين‏}‏ وتتركون عبادته، وقد أشار فيه إلى المقتضي للإنكار المعني بالهمزة ثم صرح به بقوله‏:‏

‏{‏الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءَابَائِكُمُ الأولين‏}‏ وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وحفص بالنصب على البدل‏.‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ‏}‏ أي في العذاب، وإنما أطلقه اكتفاء منه بالقرينة، أو لأن الإِحضار المطلق مخصوص بالشر عرفاً‏.‏

‏{‏إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين‏}‏ مستثنى من الواو لا من المحضرين لفساد المعنى‏.‏

‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين‏}‏‏.‏

‏{‏سلام على إِلْ يَاسِينَ‏}‏ لغة في إلياس كسيناه وسينين، وقيل جمع له مراد به هو وأتباعه كالمهلبين، لكن فيه أن العلم إذا جمع يجب تعريفه باللام أو للمنسوب إليه بحذف ياء النسب كالأعجمين وهو قليل ملبس، وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب على إضافة ‏{‏ءالَ‏}‏ إلى ‏{‏يَاسِينَ‏}‏ لأنهما في المصحف مفصولان فيكون ‏{‏يَاسِينَ‏}‏ أبا ‏{‏إِلْيَاسَ‏}‏، وقيل محمد عليه الصلاة والسلام أو القرآن أو غيره من كتب الله والكل لا يناسب نظم سائر القصص ولا قوله‏:‏

‏{‏إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين‏}‏ إذ الظاهر أن الضمير لإلياس‏.‏

‏{‏وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ المرسلين إِذْ نجيناه وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِى الغابرين ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين‏}‏ سبق بيانه‏.‏

‏{‏وَإِنَّكُمْ‏}‏ يا أهل مكة‏.‏ ‏{‏لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ‏}‏ على منازلهم في متاجركم إلى الشام فإن سدوم في طريقه‏.‏ ‏{‏مُّصْبِحِينَ‏}‏ داخلين في الصباح‏.‏

‏{‏وباليل‏}‏ أي ومساء أو نهاراً وليلاً، ولعلها وقعت قريب منزل يمر بها المرتحل عنه صباحاً والقاصد لها مساء‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ أفليس فيكم عقل تعتبرون به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏139- 149‏]‏

‏{‏وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏139‏)‏ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ‏(‏140‏)‏ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ‏(‏141‏)‏ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ‏(‏142‏)‏ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ‏(‏143‏)‏ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏144‏)‏ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ‏(‏145‏)‏ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ‏(‏146‏)‏ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ‏(‏147‏)‏ فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ‏(‏148‏)‏ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ‏(‏149‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين‏}‏ وقرئ بكسر النون‏.‏

‏{‏إِذْ أَبَقَ‏}‏ هرب، وأصله الهرب من السيد لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه حسن إطلاقه عليه‏.‏ ‏{‏إِلَى الفلك المشحون‏}‏ المملوء‏.‏

‏{‏فساهم‏}‏ فقارع أهله‏.‏ ‏{‏فَكَانَ مِنَ المدحضين‏}‏ فصار من المغلوبين بالقرعة، وأصله المزلق عن مقام الظفر‏.‏ روي أنه لما وعد قومه بالعذاب خرج من بينهم قبل أن يأمره الله، فركب السفينة فوقفت فقالوا‏:‏ ها هنا عبد آبق فاقترعوا فخرجت القرعة عليه، فقال أنا الآبق ورمى بنفسه في الماء‏.‏

‏{‏فالتقمه الحوت‏}‏ فابتلعه من اللقمة‏.‏ ‏{‏وَهُوَ مُلِيمٌ‏}‏ داخل في الملامة، أو آت بما يلام عليها أو مليم نفسه، وقرئ بالفتح مبنياً من ليم كمشيب في مشوب‏.‏

‏{‏فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين‏}‏ الذاكرين الله كثيراً بالتسبيح مدة عمره، أو في بطن الحوت وهو قوله ‏{‏لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين‏}‏ وقيل من المصلين‏.‏

‏{‏لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ حياً وقيل ميتاً، وفيه حث على إكثار الذكر وتعظيم لشأنه، ومن أقبل عليه في السراء أخذ بيده عند الضراء‏.‏

‏{‏فنبذناه‏}‏ بأن حملنا الحوت على لفظه‏.‏ ‏{‏بالعراء‏}‏ بالمكان الخالي غما يغطيه من شجر أو نبت‏.‏ روي أن الحوت سار مع السفينة رافعاً رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح حتى انتهوا إلى البر فلفظه، واختلف في مدة لبثه فقيل بعض يوم وقيل ثلاثة أيام وقيل سبعة، وقيل عشرون وقيل أربعون‏.‏ ‏{‏وَهُوَ سَقِيمٌ‏}‏ مما ناله قيل صار بدنه كبدن الطفل حين يولد‏.‏

‏{‏وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ‏}‏ أي فوقه مظلة عليه‏.‏ ‏{‏شَجَرَةً مّن يَقْطِينٍ‏}‏ من شجر ينبسط على وجه الأرض ولا يقوم على ساقه، يفعيل من قطن بالمكان إذا أقام به، والأكثر على أنها كانت الدباء غطته بأوراقها عن الذباب فإنه لا يقع عليه، ويدل عليه أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنك لتحب القرع، قال‏:‏ «أجل هي شجرة أخي يونس» وقيل التين وقيل الموز تغطى بورقه واستظل بأغصانه وأفطر على ثماره‏.‏

‏{‏وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ‏}‏ هم قومه الذين هرب عنهم وهم أهل نينوى، والمراد به ما سبق من إرساله أو إرسال ثان إليهم أو إلى غيرهم‏.‏ ‏{‏أَوْ يَزِيدُونَ‏}‏ في مرأى الناظر أي إذا نظر إليهم، قال هم مائة ألف أو يزيدون والمراد الوصف بالكثرة وقرئ بالواو‏.‏

‏{‏فَئَامِنُواْ‏}‏ فصدقوه أو فجددوا الإِيمان به بمحضره‏.‏ ‏{‏فمتعناهم إلى حِينٍ‏}‏ إلى أجلهم المسمى، ولعله إنما لم يختم قصته وقصة لوط بما ختم به سائر القصص تفرقة بينهما وبين أرباب الشرائع الكبر وأولى العزم من الرسل، أو اكتفاء بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكورين في آخر السورة‏.‏

‏{‏فاستفتهم أَلِرَبّكَ البنات وَلَهُمُ البنون‏}‏ معطوف على مثله، في أول السورة أمر رسوله أولاً باستفتاء قريش عن وجه إنكارهم البعث، وساق الكلام في تقريره جاراً لما يلائمه من القصص موصولاً بعضها ببعض، ثم أمر باستفتائهم عن وجه القسمة حيث جعلوا لله البنات ولأنفسهم البنين في قولهم‏:‏ الملائكة بنات الله، وهؤلاء زادوا على الشرك ضلالات أخر، التجسيم وتجويز الفناء على الله تعالى، فإن الولادة مخصوصة بالأجسام الكائنة الفاسدة، وتفضيل أنفسهم عليه حيث جعلوا أوضع الجنسين له وأرفعهما لهم، واستهانتهم بالملائكة حيث أنثوهم ولذلك كرر الله تعالى إنكار ذلك وإبطاله في كتابه مراراً، وجعله مما ‏{‏تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً‏}‏ والإِنكار ها هنا مقصور على الأخيرين لاختصاص هذه الطائفة بهما، أو لأن فسادهما مما تدركه العامة بمقتضى طباعهم حيث جعل المعادل للاستفهام عن التقسيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏150- 163‏]‏

‏{‏أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ‏(‏150‏)‏ أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ‏(‏151‏)‏ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏152‏)‏ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ‏(‏153‏)‏ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏154‏)‏ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏155‏)‏ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ‏(‏156‏)‏ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏157‏)‏ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ‏(‏158‏)‏ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏159‏)‏ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏160‏)‏ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ‏(‏161‏)‏ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ‏(‏162‏)‏ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ‏(‏163‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إناثا وَهُمْ شاهدون‏}‏ وإنما خص علم المشاهدة لأن أمثال ذلك لا تعلم إلا بها، فإن الأنوثة ليست من لوازم ذاتهم لتمكن معرفته بالعقل الصرف مع ما فيه من الاستهزاء، والإشعار بأنهم لفرط جهلهم يبتون به كأنهم قد شاهدوا خلقهم‏.‏

‏{‏أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله‏}‏ لعدم ما يقتضيه وقيام ما ينفيه‏.‏ ‏{‏وَإِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ فيما يتدينون به، وقرئ «وَلَدَ الله» أي الملائكة ولده، فعل بمعنى مفعول يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث‏.‏

‏{‏أَصْطَفَى البنات على البنين‏}‏ استفهام إنكار واستبعاد، والاصطفاء أخذ صفوة الشيء، وعن نافع كسر الهمزة على حذف حرف الاستفهام لدلالة أم بعدها عليها أو على الإِثبات بإضمار القول أي‏:‏ لكاذبون في قولهم اصطفى، أو إبداله من ‏{‏وَلَدَ الله‏}‏‏.‏

‏{‏مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏ بما لا يرتضيه عقل‏.‏

‏{‏أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏ أنه منزه عن ذلك‏.‏

‏{‏أَمْ لَكُمْ سلطان مُّبِينٌ‏}‏ حجة واضحة نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بناته‏.‏

‏{‏فَأْتُواْ بكتابكم‏}‏ الذي أنزل عليكم‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ في دعواكم‏.‏

‏{‏وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً‏}‏ يعني الملائكة ذكرهم باسم جنسهم وضعاً منهم أن يبلغوا هذه المرتبة، وقيل قالوا إن الله تعالى صاهر الجن فخرجت الملائكة، وقيل قالوا الله والشياطين إخوان‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ‏}‏ إن الكفرة أو الإِنس والجن إن فسرت بغير الملائكة ‏{‏لَمُحْضَرُونَ‏}‏ في العذاب‏.‏

‏{‏سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ من الولد والنسب‏.‏

‏{‏إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين‏}‏ استثناء من المحضرين منقطع، أو متصل إن فسر الضمير بما يعمهم وما بينهما اعتراض أو من ‏{‏يَصِفُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ‏}‏ عود إلى خطابهم‏.‏

‏{‏مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ‏}‏ على الله‏.‏ ‏{‏بفاتنين‏}‏ مفسدين الناس بالإِغواء‏.‏

‏{‏إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم‏}‏ إِلاَّ من سبق في علمه أنه من أهل النار ويصلاها لا محالة، ‏{‏وَأَنتُمْ‏}‏ ضمير لهم ولآلهتهم غلب فيه المخاطب على الغائب، ويجوز أن يكون ‏{‏وَمَا تَعْبُدُونَ‏}‏ لما فيه من معنى المقارنة ساداً مسد الخبر أي إنكم وآلهتكم قرناء لا تزالون تعبدونها، ما أنتم على ما تعبدونه بفاتنين بباعثين على طريق الفتنة إلا ضالاً مستوجباً للنار مثلكم، وقرئ ‏{‏صَال‏}‏ بالضم على أنه جمع محمول على معنى من ساقط واوه لالتقاء الساكنين، أو تخفيف صائل على القلب كشاك في شائك، أو المحذوف منه كالمنسي كما في قولهم‏:‏ ما باليت به بالة، فإن أصلها بالية كعافية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏164- 179‏]‏

‏{‏وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ‏(‏164‏)‏ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ‏(‏165‏)‏ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ‏(‏166‏)‏ وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ ‏(‏167‏)‏ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏168‏)‏ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏169‏)‏ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏170‏)‏ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ‏(‏171‏)‏ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ‏(‏172‏)‏ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏173‏)‏ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏174‏)‏ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ‏(‏175‏)‏ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏176‏)‏ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏177‏)‏ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏178‏)‏ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ‏(‏179‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ‏}‏ حكاية اعتراف الملائكة بالعبودية للرد على عبدتهم والمعنى‏:‏ وما منا أحد إلا له مقام معلوم في المعرفة والعبادة والانتهاء إلى أمر الله في تدبير العالم، ويحتمل أن يكون هذا وما قبله من قوله ‏{‏سبحان الله‏}‏ من كلامهم ليتصل بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة‏}‏ كأنه قال ولقد علمت الملائكة أن المشركين معذبون بذلك وقالوا ‏{‏سبحان الله‏}‏ تنزيهاً له عنه، ثم استثنوا ‏{‏المخلصين‏}‏ تبرئة لهم منه، ثم خاطبوا المشركين بأن الافتتان بذلك للشقاوة المقدرة، ثم اعترفوا بالعبودية وتفاوت مراتبهم فيه لا يتجاوزونها فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه‏.‏

‏{‏وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون‏}‏ في أداء الطاعة ومنازل الخدمة‏.‏

‏{‏وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون‏}‏ المنزهون الله عما لا يليق به، ولعل الأول إشارة إلى درجاتهم في الطاعة وهذا في المعارف، وما في إن واللام وتوسيط الفصل من التأكيد والاختصاص لأنهم المواظبون على ذلك دائماً من غير فترة دون غيرهم‏.‏ وقيل هو من كلام النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنين والمعنى‏:‏ وما منا إلا له مقام معلوم في الجنة أو بين يدي الله يوم القيامة، ‏{‏وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون‏}‏ له في الصلاة والمنزهون له عن السوء‏.‏

‏{‏وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ‏}‏ أي مشركوا قريش‏.‏

‏{‏لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الأولين‏}‏ كتاباً من الكتب التي نزلت عليهم‏.‏

‏{‏لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين‏}‏ لأخلصنا العبادة له ولم نخالف مثلهم‏.‏

‏{‏فَكَفَرُواْ بِهِ‏}‏ أي لما جاءهم الذكر الذي هو أشرف الأذكار والمهيمن عليها‏.‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ عاقبة كفرهم‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين‏}‏ أي وعدنا لهم النصر والغلبة وهو قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون‏}‏ وهو باعتبار الغالب والمقضي بالذات، وإنما سماه كلمة وهي كلمات لانتظامهم في معنى واحد‏.‏

‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ‏}‏ فأعرض عنهم‏.‏ ‏{‏حتى حِينٍ‏}‏ هو الموعد لنصرك عليهم وهو يوم بدر، وقيل يوم الفتح‏.‏

‏{‏وَأَبْصِرْهُمْ‏}‏ على ما ينالهم حينئذ والمراد بالأمر الدلالة على أن ذلك كائن قريب كأنه قدامه‏.‏ ‏{‏فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ‏}‏ ما قضينا لك من التأييد والنصرة والثواب في الآخرة، و«سوف» للوعيد لا للتبعيد‏.‏

‏{‏أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ‏}‏ روي أنه لما نزل ‏{‏فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ‏}‏ قالوا متى هذا فنزلت‏.‏

‏{‏فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ‏}‏ فإذا نزل العذاب بفنائهم، شبهه بجيش هجمهم فأناخ بفنائهم بغتة، وقيل الرسول وقرئ «نَزَّلَ» على إسناده إلى الجار والمجرور و«نَزَّلَ» أي العذاب‏.‏ ‏{‏فَسَاء صَبَاحُ المنذرين‏}‏ فبئس صباح المنذرين صباحهم، واللام للجنس وال ‏{‏صَبَاحُ‏}‏ مستعار من صباح الجيش المبيت لوقت نزول العذاب، ولما كثر فيهم الهجوم والغارة في الصباح سموا الغارة صباحاً وإن وقعت في وقت آخر‏.‏

‏{‏وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ‏}‏ تأكيد إلى تأكيد وإطلاق بعد تقييد للاشعار بأنه يبصر وأنهم يبصرون ما لا يحيط به الذكر من أصناف المسرة وأنواع المساءة، أو الأول لعذاب الدنيا والثاني لعذاب الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏180- 182‏]‏

‏{‏سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏180‏)‏ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ‏(‏181‏)‏ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏182‏)‏‏}‏

‏{‏سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ عما قاله المشركون فيه على ما حكي في السورة، وإضافة الرب إلى العزة لاختصاصها به إذ لا عزة إلا له أو لمن أعزه، وقد أدرج فيه جملة صفاته السلبية والثبوتية مع الإِشعار بالتوحيد‏.‏

‏{‏وسلام على المرسلين‏}‏ تعميم للرسل بالتسليم بعد تخصيص بعضهم‏.‏

‏{‏والحمد للَّهِ رَبّ العالمين‏}‏ على ما أفاض عليهم وعلى من اتبعهم من النعم وحسن العاقبة ولذلك أخره عن التسليم، والمراد تعليم المؤمنين كيف يحمدونه ويسلمون على رسله‏.‏ وعن علي رضي الله عنه‏:‏ من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه من مجلسه‏:‏ سبحان ربك إلى آخر السورة‏.‏

وعن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قرأ والصافات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل جني وشيطان، وتباعدت عنه مردة الجن والشياطين، وبرئ من الشرك وشهد له حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمناً بالمرسلين» ‏"‏‏.‏

سورة ص

مكية وآيها ست أو ثمان وثمانون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ ‏(‏1‏)‏ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ‏(‏2‏)‏ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ ‏(‏3‏)‏ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ‏(‏4‏)‏ أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏ص‏}‏ وقرئ بالكسر لالتقاء الساكنين، وقيل إنه أمر من المصاداة بمعنى المعارضة، ومنه الصدى فإنه يعارض الصوت الأول أي عارض القرآن بعملك، وبالفتح لذلك أو لحذف حرف القسم وإيصال فعله إليه، أو إضماره والفتح في موضع الجر فإنها غير مصروفة لأنها علم السورة وبالجر والتنوين على تأويل الكتاب‏.‏ ‏{‏والقرءان ذِى الذَّكْرِ‏}‏ الواو للقسم إن جعل ‏{‏ص‏}‏ اسماً للحرف أو مذكور للتحدي، أو للرمز بكلام مثل صدق محمد عليه الصلاة والسلام، أو للسورة خبر المحذوف أو لفظ الأمر، وللعطف إن جعل مقسماً به كقولهم‏:‏ الله لأفعلن بالجر والجواب محذوف دل عليه ما في ‏{‏ص‏}‏ من الدلالة على التحدي، أو الأمر بالمعادلة أي إنه لمعجز أو لواجب العمل به، أو إن محمداً صادق أو قوله‏:‏

‏{‏بَلِ الذين كَفَرُواْ‏}‏ أي ما كفر به من كفر لخلل وجده فيه ‏{‏بَلِ الذين كَفَرُواْ‏}‏ به‏.‏ ‏{‏فِى عِزَّةٍ‏}‏ أي استكبار عن الحق‏.‏ ‏{‏وَشِقَاقٍ‏}‏ خلاف لله ورسوله ولذلك كفروا به، وعلى الأولين الإِضراب أيضاً من الجواب المقدر ولكن من حيث إشعاره بذلك والمراد بالذكر العظة أو الشرف والشهره، أو ذكر ما يحتاج اليه في الدين من العقائد والشرائع والمواعيد، والتنكير في ‏{‏عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ‏}‏ للدلالة على شدتهما، وقرئ في «غرة» أي غفلة عما يجب عليهم النظر فيه‏.‏

‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ‏}‏ وعيد لهم على كفرهم به استكباراً وشقاقاً‏.‏ ‏{‏فَنَادَوْاْ‏}‏ استغاثة أو توبة أو استغفاراً‏.‏ ‏{‏وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ‏}‏ أي ليس الحين حين مناص، ولا هي المشبهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث للتأكيد كما زيدت على رب، وثم خصت بلزوم الأحيان وحذف أحد المعمولين، وقيل هي النافية للجنس أي ولا حين مناص لهم، وقيل للفعل والنصب بإضماره أي ولا أرى حين مناص، وقرئ بالرفع على أنه اسم لا أو مبتدأ محذوف الخبر أي ليس حين مناص حاصلاً لهم، أو لا حين مناص كائن لهم وبالكسر كقوله‏:‏

طَلَبُوا صُلْحَنَا وَلاَتَ أَوان *** فَأَجَبْنَا أَنَّ لاَتَ حِينَ بَقَاءِ

إما لأن لات تجر الأحيان كما أن لولا تجر الضمائر في قوله‏:‏

لَوْلاَكَ هَذَا العَامُ لَمْ أَحْجُج *** أو لأن أوان شبه بإذ لأنه مقطوع عن الإِضافة إذ أصله أوان صلح، ثم حمل عليه ‏{‏مَنَاصٍ‏}‏ تنزيلاً لما أضيف إليه الظرف منزلته لما بينهما من الاتحاد، إذ أصله يحن مناصهم ثم بني الحين لإضافته إلى غير متمكن ‏{‏وَّلاَتَ‏}‏ بالكسر كجير، وتقف الكوفية عليها بالهاء كالأسماء والبصرية بالتاء كالأفعال‏.‏ وقيل إن التاء مزيدة على حين لاتصالها به في الامام ولا يرد عليه أن خط المصحف خارج عن القياس إذ مثله لم يعهد فيه، والأصل اعتباره إلا فيما خصه الدليل ولقوله‏:‏

العَاطِفُونَ تَحِينَ لاَ مِنْ عَاطِف *** وَالُمْطعُمونَ زَمَانَ مَا مِنْ مُطْعمِ

والمناص المنجا من ناصه ينوصه إذا فاته‏.‏

‏{‏وَعَجِبُواْ أَن جَاءَهُم مٌّنذِرٌ مّنْهُمْ‏}‏ بشر مثلهم أو أمي من عدادهم‏.‏ ‏{‏وَقَالَ الكافرون‏}‏ وضع فيه الظاهر موضع الضمير غضباً عليهم وذماً لهم، وإشعاراً بأن كفرهم جسرهم على هذا القول‏.‏ ‏{‏هذا ساحر‏}‏ فِيمَا يظهره معجزة‏.‏ ‏{‏كَذَّابٌ‏}‏ فيما يقوله على الله تعالى‏.‏

‏{‏أَجَعَلَ الآلهة إلها واحدا‏}‏ بأن جعل الألوهية التي كانت لهم لواحد‏.‏ ‏{‏إِنَّ هذا لَشَئ عُجَابٌ‏}‏ بليغ في العجب فإنه خلاف ما أطبق عليه آباؤنا، وما نشاهده من أن الواحد لا يفي علمه وقدرته بالأشياء الكثيرة، وقرئ مشدداً وهو أبلغ ككرام وكرام‏.‏ وروي أنه لما أسلم عمر رضي الله عنه شق ذلك على قريش، فأتوا أبا طالب وقالوا أنت شيخنا وكبيرنا، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وإنا جئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فاستحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل عليهم، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ماذا يسألونني، فقالوا‏:‏ ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك، فقال‏:‏ «أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أمعطي أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم»، فقالوا‏:‏ نعم وعشراً، فقال‏:‏ «قولوا لا إله إلا الله»، فقاموا وقالوا ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 11‏]‏

‏{‏وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ‏(‏6‏)‏ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ‏(‏7‏)‏ أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ‏(‏8‏)‏ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ‏(‏9‏)‏ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ ‏(‏10‏)‏ جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وانطلق الملأ مِنْهُمْ‏}‏ وانطلق أشراف قريش من مجلس أبي طالب بعدما بكتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏أَنِ امشوا‏}‏ قائلين بعضهم لبعض ‏{‏امشوا‏}‏‏.‏ ‏{‏اصبروا‏}‏ واثبتوا‏.‏ ‏{‏على ءَالِهَتِكُمْ‏}‏ على عبادتها فلا ينفعكم مكالمته، و‏{‏أَنِ‏}‏ هي المفسرة لأن الانطلاق عن مجلس التقاول يشعر بالقول‏.‏ وقيل المراد بالانطلاق الاندفاع في القول، و‏{‏امشوا‏}‏ من مشت المرأة إذا كثرت أولادها ومنه الماشية أي اجتمعوا، وقرئ بغير ‏{‏أَنٍ‏}‏ وقرئ «يمشون أن اصبروا»‏.‏ ‏{‏إِنَّ هذا لَشَئ يُرَادُ‏}‏ إن هذا الأمر لشيء من ريب الزمان يراد بنا فلا مرد له، أو أن هذا الذي يدعيه من التوحيد أو يقصده من الرئاسة، والترفع على العرب والعجم لشيء يتمنى أو يريده كل أحد، أو أن دينكم لشيء يطلب ليؤخذ منكم‏.‏

‏{‏مَّا سَمِعْنَا بهذا‏}‏ بالذي يقوله‏.‏ ‏{‏فِى الملة الأخرة‏}‏ في الملة التي أدركنا عليها آباءنا، أو في ملة عيسى عليه الصلاة والسلام التي هي آخر الملل فإن النصارى يثلثون‏.‏ ويجوز أن يكون حالاً من هذا أي ما سمعنا من أهل الكتاب ولا الكهان بالتوحيد كائناً في الملة المترقبة‏.‏ ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق‏}‏ كذب اختلقه‏.‏

‏{‏ءَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا‏}‏ إنكار لاختصاصه بالوحي وهو مثلهم أو أدون منهم في الشرف والرئاسة كقولهم ‏{‏لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ‏}‏ وأمثال ذلك دليل على أن مبدأ تكذيبهم لم يكن إلا الحسد وقصور النظر على الحطام الدنيوي‏.‏ ‏{‏بْل هُمْ فَي شَكّ مّن ذِكْرِي‏}‏ من القرآن أو الوحي لميلهم إلى التقليد وإعراضهم عن الدليل، وليس في عقيدتهم ما يبتون به من قولهم ‏{‏هذا ساحر كَذَّابٌ‏}‏ ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق‏}‏‏.‏ ‏{‏بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ‏}‏ بل لم يذوقوا عذابي بعد فإذا ذاقوه زال شكهم، والمعنى أنهم لا يصدقون به حتى يمسهم العذاب فيلجئهم إلى تصديقه‏.‏

‏{‏أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبّكَ العزيز الوهاب‏}‏ بل أعندهم خزائن رحمته وفي تصرفهم حتى يصيبوا بها من شاؤوا ويصرفوها عمن شاؤوا فيتخير للنبوة بعض صناديدهم، والمعنى أن النبوة عطية من الله يتفضل بها على من يشاء من عباده لا مانع له فإنه العزيز أي الغالب الذي لا يغلب، الوهاب الذي له أن يهب كل ما يشاء لمن يشاء، ثم رشح ذلك فقال‏:‏

‏{‏أَمْ لَهُم مُّلْكُ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ كأنه لما أنكر عليهم التصرف في نبوته بأن ليس عندهم خزائن رحمته التي لا نهاية لها، أردف ذلك بأنه ليس لهم مدخل في أمر هذا العالم الجسماني الذي هو جزء يسير من خزائنه فمن أين لهم أن يتصرفوا فيها‏.‏

‏{‏فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب‏}‏ جواب شرط محذوف أي إن كان لهم ذلك فليصعدوا في المعارج التي يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم، فينزلوا الوحي إلى من يستصوبون‏.‏ وهو غاية التهكم بهم، والسبب في الأصل هو الوصلة، وقيل المراد بالأسباب السموات لأنها أسباب الحوادث السفلية‏.‏

‏{‏جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الأحزاب‏}‏ أي هم جند ما من الكفار المتحزبين على الرسل ‏{‏مَهْزُومٌ‏}‏ مكسور عما قريب فمن أين لهم التدابير الإِلهية والتصرف في الأمور الربانية، أو فلا تكترث بما يقولون و‏{‏مَا‏}‏ مزيدة للتقليل كقولك أكلت شيئاً ما، وقيل للتعظيم على الهزء وهو لا يلائم ما بعده، وهنالك إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل هذا القول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 20‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ ‏(‏12‏)‏ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ ‏(‏13‏)‏ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ‏(‏14‏)‏ وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ‏(‏15‏)‏ وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ‏(‏16‏)‏ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ‏(‏17‏)‏ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ ‏(‏18‏)‏ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ‏(‏19‏)‏ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الأوتاد‏}‏ ذو الملك الثابت بالأوتاد كقوله‏:‏

وَلَقَدْ غَنوا فِيْهَا بِأَنْعَمِ عِيْشَةٍ *** فِي ظِلِّ ملكٍ ثَابِتِ الأَوْتَادِ

مأخوذ من ثبات البيت المطنب بأوتاده، أو ذو الجموع الكثيرة سموا بذلك لأن بعضهم يشد بعضاً كالوتد يشد البناء‏.‏ وقيل نصب أربع سوار وكان يمد يدي المعذب ورجليه إليها ويضرب عليها أوتاداً ويتركه حتى يموت‏.‏

‏{‏وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وأصحاب لْئَيْكَةِ‏}‏ وأصحاب الغيضة وهم قوم شعيب، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «ليكة»‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الأحزاب‏}‏ يعني المتحزبين على الرسل الذين جعل الجند المهزوم منهم‏.‏

‏{‏إِن كُلٌّ كَذَّبَ الرسل‏}‏ بيان لما أسند إليهم من التكذيب على الإِبهام مشتمل على أنواع من التأكيد ليكون تسجيلاً على استحقاقهم للعذاب، ولذلك رتب عليه‏:‏ ‏{‏فَحَقَّ عِقَابِ‏}‏ وهو إما مقابلة الجمع بالجمع أو جعل تكذيب الواحد منهم تكذيب جميعهم‏.‏

‏{‏وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآءِ‏}‏ وما ينتظر قومك أو الأحزاب فإنهم كالحضور لاستحضارهم بالذكر، أو حضورهم في علم الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ صَيْحَةً واحدة‏}‏ هي النفخة الأولى‏.‏ ‏{‏مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ‏}‏ من توقف مقدار فواق وهو ما بين الحلبتين، أو رجوع وترداد فإنه فيه يرجع اللبن إلى الضرع، وقرأ حمزة والكسائي بالضم وهما لغتان‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّلْ لَّنَا قِطَّنَا‏}‏ قسطنا من العذاب الذي توعدنا به، أو الجنة التي تعدها للمؤمنين وهو من قطه إذا قطعه، وقيل لصحيفة الجائزة قط لأنها قطعة من القرطاس وقد فسر بها أي‏:‏ عجل لنا صحيفة أعمالنا للنظر فيها‏.‏ ‏{‏قَبْلَ يَوْمِ الحساب‏}‏ استعجلوا ذلك استهزاء‏.‏

‏{‏اصبر على مَا يَقُولُونَ واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ‏}‏ واذكر لهم قصته تعظيماً للمعصية في أعينهم، فإنه مع علو شأنه واختصاصه بعظائم النعم والمكرمات لما أتى صغيرة نزل عن منزلته ووبخه الملائكة بالتمثيل والتعريض حتى تفطن فاستغفر ربه وأناب فما الظن بالكفرة وأهل الطغيان، أو تذكر قصته وصن نفسه أن تزل فيلقاك ما لقيه من المعاتبة على إهمال عنان نفسه أدنى إهمال‏.‏ ‏{‏ذَا الأيد‏}‏ ذا القوة يقال فلان أيد وذو أيد وآد وأياد بمعنى‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ أَوَّابٌ‏}‏ رجاع إلى مرضاة الله تعالى، وهو تعليل ل ‏{‏الأيد‏}‏ ودليل على أن المراد به القوة في الدين، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً ويقوم نصف الليل‏.‏

‏{‏إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبّحْنَ‏}‏ قد مر تفسيره، و‏{‏يُسَبّحْنَ‏}‏ حال وضع موضع مسبحان لاستحضار الحال الماضية والدلالة على تجدد التسبيح حالاً بعد حال‏.‏ ‏{‏بالعشى والإشراق‏}‏ ووقت الإِشراق وهو حين تشرق الشمس أي تضيء ويصفو شعاعها وهو وقت الضحى، وأما شروقها فطلوعها يقال شرقت الشمس ولما تشرق‏.‏ وعن أم هانئ رضي الله تعالى عنها‏:‏ أنه عليه الصلاة والسلام صلى صلاة الضحى وقال

‏"‏ هذه صلاة الإِشراق ‏"‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية‏.‏

‏{‏والطير مَحْشُورَةً‏}‏ إليه من كل جانب، وإنما لم يراع المطابقة بين الحالين لأن الحشرجملة أدل على القدرة منه مدرجاً، وقرئ «والطير مَحْشُورَةً» بالمبتدأ والخبر‏.‏ ‏{‏كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ‏}‏ كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيحه رجاع إلى التسبيح، والفرق بينه وبين ما قبله أنه يدل على الموافقة في التسبيح وهذا على المداومة عليها، أو كل منهما ومن داوود عليه الصلاة والسلام مرجع لله التسبيح‏.‏

‏{‏وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ‏}‏ وقويناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود، وقرئ بالتشديد للمبالغة‏.‏ قيل‏:‏ إن رجلاً ادعى بقرة على آخر وعجز عن البيان، فأوحى إليه أن اقتل المدعى عليه فأعلمه فقال‏:‏ صدقت إني قتلت أباه وأخذت البقرة فعظمت بذلك هيبته‏.‏ ‏{‏وَءَاتيْنَاهُ الْحِكْمَةَ‏}‏ النبوة أو كمال العلم واتقان العمل‏.‏ ‏{‏وَفَصْلَ الخطاب‏}‏ وفصل الخصام بتمييز الحق عن الباطل، أو الكلام المخلص الذي ينبه المخاطب على المقصود من غير التباس يراعى فيه مظان الفصل والوصل والعطف والاستئناف، والإِضمار والحذف والتكرار ونحوها، وإنما سمي به أما بعد لأنه يفصل المقصود عما سبق مقدمة له من الحمد والصلاة، وقيل هو الخطاب القصد الذي ليس فيه اختصار محل ولا إشباع ممل كما جاء في وصف كلام الرسول عليه الصلاة والسلام ‏"‏ فصل لا نزر ولا هذر ‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 27‏]‏

‏{‏وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ‏(‏21‏)‏ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ‏(‏22‏)‏ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ‏(‏23‏)‏ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ‏(‏24‏)‏ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ ‏(‏25‏)‏ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ‏(‏26‏)‏ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الخصم‏}‏ استفهام معناه التعجيب والتشويق إلى استماعه، والخصم في الأصل مصدر ولذلك أطلق على الجمع‏.‏ ‏{‏إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب‏}‏ إذ تصعدوا سورة الغرفة، تفعل من السور كتسنم من السنام، وإذ متعلق بمحذوف أي نبأ تحاكم الخصم ‏{‏إِذْ تَسَوَّرُواْ‏}‏، أو بالنبأ على أن المراد به الواقع في عهد داوود عليه الصلاة والسلام، وأن إسناد أتى إليه على حذف مضاف أي قصة نبأ الخصم لما فيه من معنى الفعل لا بأتى لأن إتيانه الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن حينئذ ‏{‏وَإِذْ‏}‏ الثانية في ‏{‏إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودَ‏}‏ بدل من الأولى أو ظرف ل ‏{‏تَسَوَّرُواْ‏}‏‏.‏ ‏{‏فَفَزِعَ مِنْهُمْ‏}‏ نزلوا عليه من فوق في يوم الاحتجاب والحرس على الباب لا يتركون من يدخل عليه، فإنه عليه الصلاة والسلام كان جزأ زمانه‏:‏ يوماً للعبادة، ويوماً للقضاء، ويوماً للوعظ، ويوماً للاشتغال بخاصته، فتسور عليه ملائكة على صورة الإِنسان في يوم الخلوة‏.‏ ‏{‏قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ‏}‏ نحن فوجان متخاصمان على تسمية مصاحب الخصم خصماً‏.‏ ‏{‏بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ‏}‏ وهو على الفرض وقصد التعريض إن كانوا ملائكة وهو المشهور‏.‏ ‏{‏فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ‏}‏ ولا تجر في الحكومة، وقرئ «وَلاَ تُشْطِطْ» أي ولا تبعد عن الحق ولا تشطط ولا تشاط، والكل من معنى الشطط وهو من مجاوزة الحد‏.‏ ‏{‏واهدنا إلى سَوَاء الصراط‏}‏ أي إلى وسطه وهو العدل‏.‏

‏{‏إِنَّ هَذَا أَخِى‏}‏ بالدين أو بالصحبة‏.‏ ‏{‏لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِى نَعْجَةٌ واحدة‏}‏ هي الأنثى من الضأن وقد يكنى بها عن المرأة، والكناية والتمثيل فيما يساق للتعريض أبلغ في المقصود، وقرئ«تِسْعٌ وَتِسْعُونَ» بفتح التاء ونعجة بكسر النون، وقرأ حفص بفتح ياء ‏{‏لِى نَعْجَةً‏}‏‏.‏ ‏{‏فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا‏}‏ ملكنيها وحقيقته اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي، وقيل اجعلها كفلي أي نصيبي‏.‏ ‏{‏وَعَزَّنِى فِى الخطاب‏}‏ وغلبني في مخاطبته إياي محاجة بأن جاء بحجاج لم أقدر على رده، أو في مغالبته إياي في الخطبة يقال‏:‏ خطبت المرأة وخطبها هو فخاطبني خطاباً حيث زوجها دوني، وقرئ «وعازني» أي غالبني «وعزني» على تخفيف غريب‏.‏

‏{‏قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ‏}‏ جواب قسم محذوف قصد به المبالغة في إنكار فعل خليطه وتهجين طمعه ولعله قال ذلك بعد اعترافه، أو على تقدير صدق المدعي والسؤال مصدر مضاف إلى مفعوله وتعديته إلى مفعول آخر بإلى لتضمنه معنى الإِضافة‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الخلطاء‏}‏ الشركاء الذين خلطوا أموالهم جمع خليط ‏{‏لَيَبْغِى‏}‏ ليتعدى‏.‏ ‏{‏بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ‏}‏ وقرئ بفتح الياء على تقدير النون الخفيفة وحذفها كقوله‏:‏

اضْرُبْ عَنْكَ الهُمُومِ *** طَارِقُهَا

وبحذف الياء اكتفاء بالكسرة‏.‏

‏{‏إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ‏}‏ أي وهم قليل، و‏{‏مَا‏}‏ مزيدة للإبهام والتعجب من قلتهم‏.‏ ‏{‏وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فتناه‏}‏ ابتليناه بالذنب أو امتحناه بتلك الحكومة هل يتنبه بها‏.‏ ‏{‏فاستغفر رَبَّهُ‏}‏ لذنبه‏.‏ ‏{‏وَخَرَّ رَاكِعاً‏}‏ ساجداً على تسمية السجود ركوعاً لأنه مبدؤه، أو خر للسجود راكعاً أي مصلياً كأنه أحرم بركعتي الاستغفار‏.‏ ‏{‏وَأَنَابَ‏}‏ ورجع إلى الله بالتوبة، وأقصى ما في هذه القضية الإِشعار بأنه عليه الصلاة والسلام ود أن يكون له ما لغيره، وكان له أمثاله فنبهه الله بهذه القصة فاستغفر وأناب عنه‏.‏ وما روي أن بصره وقع على امرأة فعشقها وسعى حتى تزوجها ولدت منه سليمان، إن صح فلعله خطب مخطوبته أو استنزله عن زوجته، وكان ذلك معتاداً فيما بينهم وقد واسى الأنصار المهاجرين بهذا المعنى‏.‏ وما قيل إنه أرسل أوريا إلى الجهاد مراراً وأمر أن يقدم حتى قتل فتزوجها هزء وافتراء، ولذلك قال علي رضي الله عنه‏:‏ من حدث بحديث داوود عليه السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين‏.‏ وقيل إن قوماً قصدوا أن يقتلوه فتسوروا المحراب ودخلوا عليه فوجدوا عنده أقواماً فتصنعوا بهذا التحاكم فعلم غرضهم وأراد أن ينتقم منهم، فظن أن ذلك ابتلاء من الله له ‏{‏فاستغفر رَبَّهُ‏}‏ مما هم به ‏{‏وَأَنَابَ‏}‏‏.‏

‏{‏فَغَفَرْنَا لَهُ ذلك‏}‏ أي ما استغفر عنه‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى‏}‏ لقربة بعد المغفرة‏.‏ ‏{‏وَحُسْنَ مَئَابٍ‏}‏ مرجع في الجنة‏.‏

‏{‏ياداوود إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً فِى الأرض‏}‏ استخلفناك على الملك فيها، أو جعلناك خليفة ممن قبلك من الأنبياء القائمين بالحق‏.‏ ‏{‏فاحكم بَيْنَ الناس بالحق‏}‏ بحكم الله‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى‏}‏ ما تهوى النفس، وهو يؤيد ما قيل إن ذنبه المبادرة إلى تصديق المدعي وتظليم الآخر قبل مسألته‏.‏ ‏{‏فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ دلائله التي نصبها على الحق‏.‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحساب‏}‏ بسبب نسيانهم وهو ضلالهم عن السبيل، فإن تذكره يقتضي ملازمة الحق ومخالفة الهوى‏.‏

‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا باطلا‏}‏ لا حكمة فيه، أو ذوي باطل بمعنى مبطلين عابثين كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ‏}‏ أو للباطل الذي هو متابعة الهوى، بل للحق الذي هو مقتضى الدليل من التوحيد والتدرع بالشرع كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ على وضعه موضع المصدر مثل هنيئاً ‏{‏ذلك ظَنُّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ الإِشارة إلى خلقها باطلاً والظن بمعنى المظنون‏.‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار‏}‏ بسبب هذا الظن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 36‏]‏

‏{‏أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ‏(‏28‏)‏ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏29‏)‏ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ‏(‏30‏)‏ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ‏(‏31‏)‏ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ‏(‏32‏)‏ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ‏(‏33‏)‏ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ‏(‏34‏)‏ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ‏(‏35‏)‏ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ نَجْعَلُ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِى الأرض‏}‏ ‏{‏أَمْ‏}‏ منقطعة والاستفهام فيها لإِنكار التسوية بين الحزبين التي هي من لوازم خلقها باطلاً ليدل على نفيه وكذا التي في قوله‏:‏ ‏{‏أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار‏}‏ كأنه أنكر التسوية أولاً بين المؤمنين والكافرين ثم بين المتقين من المؤمنين والمجرمين منهم، ويجوز أن يكون تكريراً للإِنكار الأول باعتبار وصفين آخرين يمنعان التسوية من الحكيم الرحيم، والآية تدل على صحة القول بالحشر، فإن التفاضل بينهما إما أن يكون في الدنيا والغالب فيها عكس ما يقتضي الحكمة فيه، أو في غيرها وذلك يستدعي أن يكون لهم حالة أخرى يجازون بها‏.‏

‏{‏كتاب أنزلناه إِلَيْكَ مبارك‏}‏ نفاع، وقرئ بالنصب على الحال‏.‏ ‏{‏لّيَدَّبَّرُواْ ءاياته‏}‏ ليتفكروا فيها فيعرفواما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني المستنبطة وقرئ ليتدبروا على الأصل ولتدبروا أي أنت وعلماء أمتك‏.‏ ‏{‏وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الألباب‏}‏ وليتعظ به ذوو العقول السليمة، أو ليستحضروا ما هو كالمركوز في عقولهم من فرط تمكنهم من معرفته بما نصب عليه من الدلائل، فإن الكتب الإليهة بيان لما لا يعرف إلا من الشرع، وإرشاد إلى ما يستقل به العقل، ولعل التدبر للمعلوم الأول والتذكر الثاني‏.‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سليمان نِعْمَ العبد‏}‏ أي نعم العبد سليمان إذ ما بعده تعليل للمدح وهو في حاله‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ أَوَّابٌ‏}‏ رجاع إلى الله بالتوبة، أو إلى التسبيح مرجع له‏.‏

‏{‏إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ‏}‏ ظرف ل ‏{‏أَوَّابٌ‏}‏ أو ل ‏{‏نِعْمَ‏}‏، والضمير ل ‏{‏سليمان‏}‏ عند الجمهور ‏{‏بالعشى‏}‏ بعد الظهر ‏{‏الصافنات‏}‏ الصافن من الخيل الذي يقوم على طرف سنبك يد أو رجل، وهو من الصفات المحمودة في الخيل الذي لا يكاد يكون إلا في العراب الخلص‏.‏ ‏{‏الجياد‏}‏ جمع جواد أو جود، وهو الذي يسرع في جريه وقيل الذي يجود في الركض، وقيل جمع جيد‏.‏ روي أنه عليه الصلاة والسلام غزا دمشق ونصيبين وأصاب ألف فرس، وقيل أصابها أبوه من العمالقة فورثها منه فاستعرضها فلم تزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وغفل عن العصر، أو عن ورد كان له فاغتم لما فاته فاستردها فعقرها تقرباً لله‏.‏

‏{‏فَقَالَ إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِى‏}‏ أصل ‏{‏أَحْبَبْتُ‏}‏ أن يعدى بعلى لأنه بمعنى آثرت لكن لما أنيب مناب أنبت عدي تعديته، وقيل هو بمعنى تقاعدت من قوله

‏:‏

مِثْلُ بَعِيرِ السُّوءِ إِذَا أَحَبَّا *** أي برك، و‏{‏حُبَّ الخير‏}‏ مفعول له والخير المال الكثير، والمراد به الخيل التي شغلته ويحتمل أنه سماها خيراً لتعلق الخير بها‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بفتح الياء‏.‏

‏{‏حتى تَوَارَتْ بالحجاب‏}‏ أي غربت الشمس، شبه غروبها بتواري المخبأة بحجابها وإضمارها من غير ذكر لدلالة العشي عليها‏.‏

‏{‏رُدُّوهَا عَلَىَّ‏}‏ الضمير ل ‏{‏الصافنات‏}‏‏.‏ ‏{‏فَطَفِقَ مَسْحاً‏}‏ فأخذ بمسح السيف مسحاً‏.‏ ‏{‏بالسوق والأعناق‏}‏ أي بسوقها وأعناقها يقطعها من قولهم مسح علاوته إذا ضرب عنقه، وقيل جعل يمسح بيده أعناقها وسوقها حبالها، وعن ابن كثير «بالسؤق» على همز الواو لضمة ما قبلها كمؤقن، وعن أبي عمرو «بالسؤوق» وقرئ «بالساق» اكتفاء بالواحد عن الجمع لأمن الالباس‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ‏}‏ وأظهر ما قيل فيه ما روي مرفوعاً ‏"‏ أنه قال‏:‏ لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة جاءت بشق رجل، فو الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا فرساناً ‏"‏ وقيل ولد له ابن فاجتمعت الشياطين على قتله فعلم ذلك، فكان يغدوه في السحاب فما شعر به إلا أن ألقي على كرسيه ميتاً فتنبه على خطئه بأن لم يتوكل على الله‏.‏ وقيل إنه غزا صيدون من الجزائر فقتل ملكها وأصاب ابنته جرادة، فأحبها وكان لا يرقأ دمعها جزعاً على أبيها، فأمر الشياطين فمثلوا لها صورته فكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن لها كعادتهن في ملكه، فأخبره آصف فكسر الصورة وضرب المرأة وخرج إلى الفلاة باكياً متضرعاً، وكانت له أم ولد اسمها أمينة إذا دخل للطهارة أعطاها خاتمه وكان ملكه فيه، فأعطاها يوماً فتمثل لها بصورته شيطان اسمه صخر وأخذ الخاتم وتختم به وجلس على كرسيه، فاجتمع عليه الخلق ونفذ حكمه في كل شيء إلا في نسائه وغير سليمان عن هيئته، فأتاها لطلب الخاتم فطردته فعرف أن الخطيئة قد أدركته، فكان يدور على البيوت يتكفف حتى مضى أربعون يوماً عدد ما عبدت الصورة في بيته، فطار الشيطان وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة فوقعت في يده فبقر بطنها فوجد الخاتم فتختم به وخر ساجداً وعاد إليه الملك، فعلى هذا الجسد صخر سمي به وهو جسم لا روح فيه لأنه كان متمثلاً بما لم يكن كذلك، والخطيئة تغافله عن حال أهله لأن اتخاذ التماثيل كان جائزاً حينئذ، وسجود الصورة بغير علمه لا يضره‏.‏

‏{‏قَالَ رَبّ اغفر لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لأَحَدٍ مّن بَعْدِى‏}‏ لا يتسهل له ولا يكون ليكون معجزة لي مناسبة لحالي، أو لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني بعد هذه السلبة، أو لا يصح لأحد من بعدي لعظمته كقولك‏:‏ لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال، على إرادة وصف الملك بالعظمة لا أن لا يعطى أحد مثله فيكون منافسة، وتقديم الاستغفار على الاستيهاب لمزيد اهتمامه بأمر الدين ووجوب تقديم ما يجعل للدعاء بصدد الإِجابة‏.‏ وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء‏.‏ ‏{‏إِنَّكَ أَنتَ الوهاب‏}‏ المعطي ما تشاء لمن تشاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 47‏]‏

‏{‏وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ‏(‏37‏)‏ وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ‏(‏38‏)‏ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏39‏)‏ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ ‏(‏40‏)‏ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ‏(‏41‏)‏ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ‏(‏42‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏43‏)‏ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ‏(‏44‏)‏ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ‏(‏45‏)‏ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ‏(‏46‏)‏ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح‏}‏ فذللناها لطاعته إجابة لدعوته وقرئ «الرياح»‏.‏ ‏{‏تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاءً‏}‏ لينة من الرخاوة لا تزعزع، أو لا تخالف إرادته كالمأمور المنقاد‏.‏ ‏{‏حَيْثُ أَصَابَ‏}‏ أراد من قولهم أصاب الصواب فأخطأ الجواب‏.‏

‏{‏والشياطين‏}‏ عطف على ‏{‏الريح‏}‏‏.‏ ‏{‏كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ‏}‏ بدل منه‏.‏

‏{‏وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الأصفاد‏}‏ عطف على كل كأنه فصل الشياطين إلى عملة استعملهم في الأعمال الشاقة كالبناء والغوص، ومردة قرن بعضهم مع بعض في السلاسل ليكفوا عن الشر، ولعل أجسامهم شفافة صلبة فلا ترى ويمكن تقييدها، هذا والأقرب أن المراد تميل كفهم عن الشرور بالإِقران في الصفد وهو القيد، وسمي به العطاء لأنه يرتبط به المنعم عليه‏.‏ وفرقوا بين فعليهما فقالوا صفده قيده وأصفده أعطاه عكس وعد وأوعد وفي ذلك نكتة‏.‏

‏{‏هذا عَطَاؤُنَا‏}‏ أي هذا الذي أعطيناك من الملك والبسطة والتسلط على ما لم يسلط به غيرك عطائنا‏.‏ ‏{‏فامنن أَوْ أَمْسِكْ‏}‏ فاعط من شئت وامنع من شئت‏.‏ ‏{‏بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ حال من المستكن في الأمر، أي غير محاسب على منه وإمساكه لتفويض التصرف فيه إليك أو من العطاء أو صلة له وما بينهما اعتراض‏.‏ والمعنى أنه عطاء جم لا يكاد يمكن حصره، وقيل الإِشارة إلى تسخير الشياطين، والمراد بالمن والإِمساك إطلاقهم وإبقاءهم في القيد‏.‏

‏{‏وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى‏}‏ في الآخرة مع ما له من الملك العظيم في الدنيا‏.‏ ‏{‏وَحُسْنَ مَئَابٍ‏}‏ هو الجنة‏.‏

‏{‏واذكر عَبْدَنَا أَيُّوبَ‏}‏ هو ابن عيص بن إسحاق وامرأته ليا بنت يعقوب صلوات الله عليه‏.‏ ‏{‏إِذْ نادى رَبَّهُ‏}‏ بدل من ‏{‏عَبْدَنَا‏}‏ و‏{‏أَيُّوبَ‏}‏ عطف بيان له‏.‏ ‏{‏أَنّى مَسَّنِىَ‏}‏ بأن مسني، وقرأ حمزة بإسكان الياء وإسقاطها في الوصل‏.‏ ‏{‏الشيطان بِنُصْبٍ‏}‏ بتعب‏.‏ ‏{‏وَعَذَابٍ‏}‏ ألم وهي حكاية لكلامه الذي ناداه به ولولا هي لقال إنه مسه، والإِسناد إلى ‏{‏الشيطان‏}‏ إما لأن الله مسه بذلك لما فعل بوسوسته كما قيل إنه أعجب بكثرة ماله أو استغاثة مظلوم فلم يغثه، أو كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يغزه، أو لسؤاله امتحاناً لصبره فيكون اعترافاً بالذنب أو مراعاة للأدب، أو لأنه وسوس إلى أتباعه حتى رفضوه وأخرجوه من ديارهم، أو لأن المراد بالنصب والعذاب ما كان يوسوس إليه في مرضه من عظم البلاء والقنوط من الرحمة ويغريه على الجزع، وقرأ يعقوب بفتح النون على المصدر، وقرئ بفتحتين وهو لغة كالرشد والرشد وبضمتين للتثقيل‏.‏

‏{‏اركض بِرِجْلِكَ‏}‏ حكاية لما أجيب به أي اضرب برجلك الأرض‏.‏ ‏{‏هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ‏}‏ أي فضربها فنبعت عين فقيل هذا مغتسل أي ماء تغتسل به وتشرب منه فيبرأ باطنك وظاهرك، وقيل نبعث عينان حارة وباردة فاغتسل من الحارة واشرب من الأخرى‏.‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ‏}‏ بأن جمعناهم عليه بعد تفرقهم أو أحييناهم بعد موتهم، وقيل وهبنا له مثلهم‏.‏ ‏{‏وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ‏}‏ حتى كان له ضعف ما كان‏.‏ ‏{‏رَحْمَةً مّنَّا‏}‏ لرحمتنا عليه ‏{‏وذكرى لأُوْلِى الألباب‏}‏ وتذكيراً لهم لينتظروا الفرج بالصبر واللجأ إلى الله فيما يحيق بهم‏.‏

‏{‏وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً‏}‏ عطف على اركض والضغث الحزمة الصغيرة من الحشيش ونحوه‏.‏ ‏{‏فاضرب بّهِ وَلاَ تَحْنَثْ‏}‏ روي أن زوجته ليا بنت يعقوب وقيل رحمة بنت افراثيم بن يوسف ذهبت لحاجة فأبطأت فحلف إن برئ ضربها مائة ضربة، فحلل الله يمينه بذلك وهي رخصة باقية في الحدود‏.‏ ‏{‏إِنَّا وجدناه صَابِراً‏}‏ فيما أصابه في النفس والأهل والمال، ولا يخل به شكواه إلى الله من الشيطان فإنه لا يسمى جزعاً كتمني العافية وطلب الشفاء مع أنه قال ذلك خيفة أن يفتنه أو قومه في الدين‏.‏ ‏{‏نِعْمَ العبد‏}‏ أيوب‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ أَوَّابٌ‏}‏ مقبل بشراشره على الله تعالى‏.‏

‏{‏واذكر عِبَادَنَا إبراهيم وإسحاق وَيَعْقُوبَ‏}‏ وقرأ ابن كثير «عَبْدَنَا» وضع الجنس موضع الجمع، أو على أن ‏{‏إِبْرَاهِيمَ‏}‏ وحده لمزيد شرفه عطف بيان له، ‏{‏وإسحاق وَيَعْقُوبَ‏}‏ عطف عليه‏.‏ ‏{‏أُوْلِى الأيدى والأبصار‏}‏ أولي القوة في الطاعة والبصيرة في الدين، أو أولي الأعمال الجليلة والعلوم الشريفة، فعبر بالأيدي عن الأعمال لأن أكثرها بمباشرتها وبالأبصار عن المعارف لأنها أقوى مباديها، وفيه تعريض بالبطلة الجهال أنهم كالزمنى والعماة‏.‏

‏{‏إِنَّا أخلصناهم بِخَالِصَةٍ‏}‏ جعلناهم خالصين لنا بخصلة خالصة لا شوب فيها هي‏:‏ ‏{‏ذِكْرَى الدار‏}‏ تذكرهم الدار الآخرة دائماً فإن خلوصهم في الطاعة بسببها، وذلك لأن مطمح نظرهم فيما يأتون ويذرون جوار الله والفوز بلقائه وذلك في الآخرة، وإطلاق ‏{‏الدار‏}‏ للاشعار بأنها الدار الحقيقية والدنيا معبر، وأضاف نافع وهشام ‏{‏بِخَالِصَةٍ‏}‏ إلى ‏{‏ذِكْرِى‏}‏ للبيان أو لأنه مصدر بمعنى الخلوص فأضيف إلى فاعله‏.‏

‏{‏وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الأخيار‏}‏ لمن المختارين من أمثالهم المصطفين عليهم في الخير جمع خير كشر وأشرار‏.‏ وقيل جمع خير أو خير على تخفيفه كأموات في جمع ميت أو ميت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 60‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ ‏(‏48‏)‏ هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ ‏(‏49‏)‏ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ ‏(‏50‏)‏ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ‏(‏51‏)‏ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ‏(‏52‏)‏ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ‏(‏53‏)‏ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ‏(‏54‏)‏ هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ ‏(‏55‏)‏ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏56‏)‏ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ‏(‏57‏)‏ وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ‏(‏58‏)‏ هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ‏(‏59‏)‏ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏واذكر إسماعيل واليسع‏}‏ هو ابن أخطوب استخلفه إلياس على بني إسرائيل ثم استنبئ، واللام فيه كما في قوله‏:‏

رَأَيْتُ الوَلِيدَ بْنَ اليَزِيدَ مُبَارَكاً *** وقرأ حمزة والكسائي «ولليسع» تشبيهاً بالمنقول من ليسع من اللسع‏.‏ ‏{‏وَذَا الكفل‏}‏ ابن عم يسع أو بشر بن أيوب‏.‏ واختلف في نبوته ولقبه فقيل فر إليه مائة نبي من بني إسرائيل من القتل فآواهم وكفلهم، وقيل كفل بعمل رجل صالح كان يصلي كل يوم مائة صلاة ‏{‏وَكُلٌّ‏}‏ أي وكلهم‏.‏ ‏{‏مّنَ الأخيار‏}‏‏.‏

‏{‏هذا‏}‏ إشارة إلى ما تقدم من أمورهم‏.‏ ‏{‏ذُكِرٌ‏}‏ شرف لهم، أو نوع من الذكر وهو القرآن‏.‏ ثم شرع في بيان ما أعد لهم ولأمثالهم فقال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ‏}‏ مرجع‏.‏

‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ عطف بيان ‏{‏لَحُسْنَ مَئَابٍ‏}‏ وهو من الأعلام الغالبة لقوله ‏{‏جنات عَدْنٍ التى وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب‏}‏ وانتصب عنها‏.‏ ‏{‏مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب‏}‏ على الحال والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل، وقرئتا مرفوعتين على الابتداء والخبر أو أنهما خبران لمحذوف‏.‏

‏{‏مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بفاكهة كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ‏}‏ حالان متعاقبان أو متداخلان من الضمير في لهم لا من المتقين للفصل، والأظهر أن يدعون استئناف لبيان حالهم فيها ومتكئين حال من ضميره، والاقتصار على الفاكهة للإشعار بأن مطاعمهم لمحض التلذذ، فإن التغذي للتحلل ولا تحلل ثمة‏.‏

‏{‏وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف‏}‏ لا ينظرون إلى غير أزواجهن‏.‏ ‏{‏أَتْرَابٌ‏}‏ لذات لهم فإن التحاب بين الأقران أثبت، أو بعضهن لبعض لا عجوز فيهن ولا صبية، واشتقاقه من التراب فإنه يمسهن في وقت واحد‏.‏

‏{‏هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحساب‏}‏ لآجاله فإن الحساب علة الوصول إلى الجزاء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء ليوافق ما قبله‏.‏

‏{‏إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ‏}‏ انقطاع‏.‏

‏{‏هذا‏}‏ أي الأمر هذا أو هذا كما ذكر أو خذ هذا‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ للطاغين لَشَرَّ مَئَابٍ‏}‏‏.‏

‏{‏جَهَنَّمَ‏}‏ إعرابه ما سبق‏.‏ ‏{‏يَصْلَوْنَهَا‏}‏ حال من جهنم‏.‏ ‏{‏فَبِئْسَ المهاد‏}‏ المهد والمفترش، مستعار من فراش النائم والمخصوص بالذم محذوف وهو ‏{‏جَهَنَّمَ‏}‏ لقوله ‏{‏لَهُم مّن جَهَنَّمَ مهادا‏}‏ ‏{‏هذا فَلْيَذُوقُوهُ‏}‏، أي ليذوقوا هذا فليذوقوه، أو العذاب هذا فليذوقوه، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره‏:‏ ‏{‏حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ‏}‏ وهو على الأولين خبر محذوف أي هو ‏{‏حَمِيمٍ‏}‏، والغساق ما يغسق من صديد أهل النار من غسقت العين إذا سال دمعها، وقرأ حفص وحمزة والكسائي «غَسَّاق» بتشديد السين‏.‏

‏{‏وَءَاخَرُ‏}‏ أي مذوق أو عذاب آخر، وقرأ البصريان «وأخرى» أي ومذوقات أو أنواع عذاب أخر‏.‏ ‏{‏مِن شَكْلِهِ‏}‏ من مثل هذا المذوق أو العذاب في الشدة، وتوحيد الضمير على أنه لما ذكر أو للشراب الشامل للحميم والغساق أو للغساق‏.‏

وقرئ بالكسر وهو لغة‏.‏ ‏{‏أزواج‏}‏ أجناس خبر ل ‏{‏ءَاخَرُ‏}‏ أو صفة له أو للثلاثة، أو مرتفع بالجار والخبر محذوف مثل لهم‏.‏

‏{‏هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ‏}‏ حكاية ما يقال للرؤساء الطاغين إذا دخلوا النار واقتحمها معهم فوج تبعهم في الضلال، والاقتحام ركوب الشدة والدخول فيها‏.‏ ‏{‏لاَ مَرْحَباً بِهِمْ‏}‏ دعاء من المتبوعين على أتباعهم أو صفة ل ‏{‏فَوْجٌ‏}‏، أو حال أي مقولاً فيهم لا مرحباً أي ما أتوا بهم رحباً وسعة‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ صَالُو النار‏}‏ داخلون النار بأعمالهم مثلنا‏.‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي الأتباع للرؤساء‏.‏ ‏{‏بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ‏}‏ بل أنتم أحق بما قلتم، أو قيل لنا لضلالكم وإضلالكم كما قالوا‏:‏ ‏{‏أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا‏}‏ قدمتم العذاب أو الصلي لنا بإِغوائنا وإغرائنا على ما قدمتموه من العقائد الزائغة والأعمال القبيحة‏.‏ ‏{‏فَبِئْسَ القرار‏}‏ فبئس المقر جهنم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 70‏]‏

‏{‏قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ‏(‏61‏)‏ وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ ‏(‏62‏)‏ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ ‏(‏63‏)‏ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ‏(‏64‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏65‏)‏ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ‏(‏66‏)‏ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ‏(‏67‏)‏ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ‏(‏68‏)‏ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏69‏)‏ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي الأتباع أيضاً‏.‏ ‏{‏رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِى النار‏}‏ مضاعفاً أي ذا ضعف وذلك أن يزيد على عذابه مثله فيصير ضعفين كقوله ‏{‏رَبَّنَا ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب‏}‏ ‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ أي الطاغوت‏.‏ ‏{‏مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الأشرار‏}‏ يعنون فقراء المسلمين الذين يسترذلون ويسخرون بهم‏.‏

‏{‏أتخذناهم سُخْرِيّاً‏}‏ صفة أخرى ل ‏{‏رِجَالاً‏}‏، وقرأ الحجازيان وابن عامر وعاصم بهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم وتأنيب لها في الاستسخار منهم، وقرأ نافع وحمزة والكسائي ‏{‏سُخْرِيّاً‏}‏ بالضم وقد سبق مثله في «المؤمنين»‏.‏ ‏{‏أَمْ زَاغَتْ‏}‏ مالت‏.‏ ‏{‏عَنْهُمُ الأبصار‏}‏ فلا نراهم ‏{‏أَمْ‏}‏ معادلة ل ‏{‏مَا لَنَا لاَ نرى‏}‏ على أن المراد نفي رؤيتهم لغيبتهم كأنهم قالوا‏:‏ أليسوا ها هنا أم زاغت عنهم أبصارنا، أو لاتخذناهم على القراءة الثانية بمعنى أي الأمرين فعلنا بهم الاستسخار منهم أم تحقيرهم، فإن زيغ الأبصار كناية عنه على معنى إنكارهما على أنفسهم، أو منقطعة والمراد الدلالة على أن استرذالهم والاستسخار منهم كان لزيغ أبصارهم وقصور أنظارهم على رثاثة حالهم‏.‏

‏{‏إِنَّ ذلك‏}‏ الذي حكيناه عنهم‏.‏ ‏{‏لَحَقُّ‏}‏ لا بد أن يتكلموا به ثم بين ما هو فقال‏:‏ ‏{‏تَخَاصُمُ أَهْلِ النار‏}‏ وهو بدل من لحق أو خبر محذوف، وقرئ بالنصب على البدل من ذلك‏.‏

‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد للمشركين‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنَاْ مُنذِرٌ‏}‏ أنذركم عذاب الله‏.‏ ‏{‏وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله الواحد‏}‏ الذي لا يقبل الشركة والكثرة في ذاته‏.‏ ‏{‏القهار‏}‏ لكل شيء يريد قهره‏.‏

‏{‏رَبّ ُ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ منه خلقها وإليه أمرها‏.‏ ‏{‏العزيز‏}‏ الذي لا يغلب إذا عاقب‏.‏ ‏{‏الغفار‏}‏ الذي يغفر ما يشاء من الذنوب لمن يشاء، وفي هذه الأوصاف تقرير للتوحيد ووعد ووعيد للموحدين والمشركين، وتثنية ما يشعر بالوعيد وتقديمه لأن المدعو به هو الإِنذار‏.‏

‏{‏قُلْ هُوَ‏}‏ أي ما أنبأتكم به من أني نذير من عقوبة من هذه صفته وأنه واحد في ألوهيته، وقيل ما بعده من نبأ آدم‏.‏ ‏{‏نَبَأٌ عَظِيمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ‏}‏ لتمادي غفلتكم فإن العاقل لا يعرض عن مثله كيف وقد قامت عليه الحجج الواضحة، أما على التوحيد فما مرَّ وأما على النبوة فقوله‏:‏

‏{‏مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الأعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ‏}‏ فإن إخباره عن تقاول الملائكة وما جرى بينهم على ما ورد في الكتب المتقدمة من غير سماع ومطالعة كتاب لا يتصوّر إلا بالوحي، و‏{‏إِذْ‏}‏ متعلق ب ‏{‏عِلْمٍ‏}‏ أو بمحذوف إذ التقرير من علم بكلام الملأ الأعلى‏.‏

‏{‏إِن يوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏ أي لأنما كأنه لما جوز أن الوحي يأتيه بين بذلك ما هو المقصود به تحقيقاً لقوله ‏{‏إِنَّمَا أَنَاْ مُنذِرٌ‏}‏ ويجوز أن يرتفع بإسناد يوحى إليه، وقرئ «إِنَّمَا» بالكسر على الحكاية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 88‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ‏(‏71‏)‏ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ‏(‏72‏)‏ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ‏(‏73‏)‏ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏74‏)‏ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ‏(‏75‏)‏ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ‏(‏76‏)‏ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ‏(‏77‏)‏ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ‏(‏78‏)‏ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏79‏)‏ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ‏(‏80‏)‏ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ‏(‏81‏)‏ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏82‏)‏ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏83‏)‏ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ‏(‏84‏)‏ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏85‏)‏ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ‏(‏86‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏87‏)‏ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّى خالق بَشَراً مّن طِينٍ‏}‏ بدل من ‏{‏إِذْ يَخْتَصِمُونَ‏}‏ مبين له فإن القصة التي دخلت إذ عليها مشتملة على تقاول الملائكة وإبليس في خلق آدم عليه السلام، واستحقاقه للخلافة والسجود على ما مر في «البقرة»، غير أنها اختصرت اكتفاء بذلك واقتصاراً على ما هو المقصود منها، وهو إنذار المشركين على استكبارهم على النبي عليه الصلاة والسلام بمثل ما حاق بإبليس على استكباره على آدم عليه السلام، هذا ومن الجائز أن يكون مقاولة الله تعالى إياهم بواسطة ملك، وأن يفسر «الملأ الأعلى» بما يعم الله تعالى والملائكة‏.‏

‏{‏فَإِذَا سَوَّيْتُهُ‏}‏ عدلت خلقته‏.‏ ‏{‏وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى‏}‏ وأحييته بنفخ الروح فيه، وإضافته الى نفسه لشرفه وطهارته‏.‏ ‏{‏فَقَعُواْ لَهُ‏}‏ فخروا له‏.‏ ‏{‏ساجدين‏}‏ تكرمة وتبجيلاً له وقد مر من الكلام فيه في «البقرة»‏.‏

‏{‏فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏إِلاَّ إِبْلِيسَ استكبر‏}‏ تعظم‏.‏ ‏{‏وَكَانَ‏}‏ وصار‏.‏ ‏{‏مِنَ الكافرين‏}‏ باستنكاره أمر الله تعالى واستكباره عن المطاوعة، أو كان منهم في علم الله تعالى‏.‏

‏{‏قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ‏}‏ خلقته بنفسي من غير توسط كأب وأم، والثنية لما في خلقه من مزيد القدرة واختلاف الفعل، وقرئ على التوحيد وترتيب الإنكار عليه للإشعار بأنه المستدعي للتعظيم، أو بأنه الذي تشبث به في تركه وهو لا يصلح مانعاً إذ للسيد أن يستخدم بعض عبيده لبعض سيما وله مزيد اختصاص‏.‏ ‏{‏أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين‏}‏ تكبرت من غير استحقاق أو كنت ممن علا واستحق التفوق، وقيل استكبرت الآن أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين، وقرئ ‏{‏اسْتَكْبَرْتَ‏}‏ بحذف الهمزة لدلالة ‏{‏أَمْ‏}‏ عليها أو بمعنى الإخبار‏.‏

‏{‏قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ‏}‏ إبداء للمانع وقوله‏:‏ ‏{‏خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ‏}‏ دليل عليه وقد سبق الكلام فيه‏.‏

‏{‏قَالَ فاخرج مِنْهَا‏}‏ من الجنة أو من السماء، أو من الصورة الملكية‏.‏ ‏{‏فَإِنَّكَ رَجِيمٌ‏}‏ مطرود من الرحمة ومحل الكرامة‏.‏

‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إلى يَوْمِ الدين قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم‏}‏ مر بيانه في «الحجر»‏.‏

‏{‏قَالَ فَبِعِزَّتِكَ‏}‏ فبسلطانك وقهرك‏.‏ ‏{‏لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين‏}‏ الذين أخلصهم الله لطاعته وعصمهم من الضلالة، أو أخلصوا قلوبهم لله على اختلاف القراءتين‏.‏

‏{‏قَالَ فالحق والحق أَقُولُ‏}‏ أي فأحق الحق وأقوله، وقيل «الحق» الأول اسم الله نصبه بحذف حرف القسم كقوله‏:‏

إِنَّ عَلَيْكَ الله أَنْ تُبَايِعَا *** وجوابه ‏{‏لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ وما بينهما اعتراض وهو على الأول جواب محذوف والجملة تفسير ل ‏{‏الحق‏}‏ المقول، وقرأ عاصم وحمزة برفع الأول على الابتداء أي الحق يميني أو قسمي، أو الخبر أي أنا ‏{‏الحق‏}‏، وقرئا مرفوعين على حذف الضمير من أقول كقوله‏:‏ كله لم أصنع‏.‏

ومجرورين على إضمار حرف القسم في الأول وحكاية لفظ المقسم به في الثاني للتأكيد، وهو سائغ فيه إذا شارك الأول وبرفع الأول وجره ونصب الثاني وتخريجه على ما ذكرناه، والضمير في منهم للناس إذ الكلام فيهم والمراد بمنك من جنسك ليتناول الشياطين، وقيل للثقلين وأجمعين تأكيد له أو للضميرين‏.‏

‏{‏قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ‏}‏ أي على القرآن أو تبليغ الوحي‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنَا مِنَ المتكلفين‏}‏ المتصفين بما ليسوا من أهله على ما عرفتم من حالي فأنتحل النبوة، وأتقول القرآن‏.‏

‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ‏}‏ عظة‏.‏ ‏{‏للعالمين‏}‏ للثقلين‏.‏ ‏{‏وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ‏}‏ وهو ما فيه من الوعد والوعيد، أو صدقه بإتيان ذلك‏.‏ ‏{‏بَعْدَ حِينِ‏}‏ بعد الموت أو يوم القيامة أو عند ظهور الإِسلام وفيه تهديد‏.‏

عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة ‏(‏ص‏)‏ كان له بوزن كل جبل سخره الله لداود عشر حسنات، وعصمه الله أن يصر على ذنب صغير أو كبير»‏.‏